في أمسية الخميس 19 رمضان 1432ه الموافق 19 أغسطس 2011م، رحل من هذه الدنيا الفانية إلى دنيا البرزخ متوفياً أبو الصحة المهنية في السودان الدكتور يوسف عثمان يوسف، استمعت إلى ذلك النبأ المؤلم حقاً وأنا على فراش المرض، ومضاعفات الشيخوخة، وأنا أعد الأيام المتبقيات لي في هذه الدنيا الفانية والرحيل.. أقول هذا واستغفر الله العظيم الذي بيده الموت والحياة. والواقع أن الصحة المهنية لم تغب عن السودان برحيل الدكتور يوسف عثمان يوسف في أمسية اليوم الذي ذكرت، بل في ذلكم اليوم الذي حزم فيه حقائبه ورحل عبر البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية مستشاراً لوزارة الصحة بها، ولم يغادر الرجل حي الميرغنية، ومن قبل حلة حمد، وحلة خوجلي، وجزيرة توتي، وأهله المحس (الخزرج) والإدارة العامة للصحة المهنية بوزارة الصحة وأفرعها في الاقليم بورتسودان- مدني إلا بعد أن أحس من أهل مهنته كل صروف وصنوف المضايقات، فامتلأت عيونه بالدمع السخين الذي سد مساحة النظر، وكان لابد من الرحيل، فرحل ولقد أرخ يوم رحيله تاريخاً ليوم رحيل الصحة المهنية. وأقولها صادقاً- أنه كان هناك تعمد لرحيله في الوقت الذي فيه رفعت الشعارات الصادقة والزائفة وكلها سراب زائف- يرفع وتعليه شنأن القناعة بكل ألوان طيفها في السودان، وهنا افتح قوساً كما تقول المذيعة والشاعرة روضة الحاج، أن رحيل الرجل من الصحة المهنية تزامن مع رحيل أسامة الصلحي من الإدارة العامة للمعاشات، ورحيل الشريف عبود من المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية. أرجع تاريخاً إلى عام 1957م عندما ساقتنا ظروف طبيعة العمل الميداني التجوال في حملة التطعيم الكبرى ضد مرض السل إلى المديرية الاستوائية (ياحليلة)، حيث تعرفت على الرجل عندما كان يعمل حكيمباشى لمستشفى جوبا بعد تسلمه أعباء وظيفته من البكباشي (طبيب) عبد الله قلندر، وللزيادة- ربما غير المستحبة- أقول إنني تعرفت على (البكباشي) ثم اللواء (طبيب)، ووزير الشباب، ومحافظ الخرطوم الشاعر عبد الله أحمد قلندر قبل الدكتور يوسف، وامتدت صلاتنا إلى فترة ما إلى أن غادرنا إلى مصر حيث مات هناك- رحمه الله. وإن مبعث ومنبت صلاتي وعلاقاتي كلها بالأول في إحدى أساسياتها إلى أبي الروحي الدكتور زين العابدين إبراهيم ومن بعده شقيقه إمام إبراهيم المحسي أحد ركائز ديون شؤون الخدمة في السودان وإلى البعض من أهل جزيرة توتي والتي لم تعد جزيرة، وفي المقدمة الشاعر القومي- لست أدري لماذا يوصف الشعر باللغة الدارجة بالقومي- الشيخ عمر الضو الذي مات ورحل عنا، ولم يجد الحظ المستحق من التكريم، ولقد صال وجال في كل مجالات الشعر القومي الاجتماعي والسياسي- راجع مسرحياته التلفزيونية (ياقروية ويا محمد) ومرثيته (الخور) وملحمته (توتي المناضلة). أبتعث الراحل مع إثنين من الأطباء، حسن حامد، وعلي إبراهيم إلى المملكة المتحدة للتخصيص، في طب الصحة المهنية، وكان ثلاثتهم الباكورة في هذا التخصص، وعند عودتهم ولأسباب ومبررات لا علم لي بها لتاريخه، أختير الراحل لانشاء وتأسيس الإدارة العامة للصحة المهنية بوزارة الصحة، ولا علم لي إن كان ذلكم الاختيار هو الدافع لترك الدكتور حسن حامد الخدمة والإلتحاق بمؤسسة قريبة الدكتور خليل إبراهيم في مصنع النسيج السوداني بالخرطوم بحري، وبالدكتور علي إبراهيم ترك بلده إلى المملكة العربية السعودية. وجاءت الإدارة العامة للصحة المهنية إلى الوجود- بفضل الله أولاً- وتوفيقه لعبده الراحل، وجاءت مع هذه علاقات وصلات القومسيون الطبي بالصحة المهنية، لاسيما في تقدير نسب عجز الأمراض المهنية وتقييم مدى الصلاحية للاستمرار بالخدمة (التلجين). وأنصبت إحدى إهتمامات الرجل بالتدريب والتثقيف في مجال العمل ولذلك، أنشأ فصلاً بالإدارة العامة للصحة المهنية لتدريب وتثقيف العاملين في مجالات عملهم، وشمل هذا رجال الإطفاء، ومؤسسات الغزل والنسيج والمبيدات الحشرية وورش السكة الحديد، والنقل النهري، وميناء بورتسودان، والتفت الراحل إلى المتاعب الصحية التي تلحق بالعاملين في مصانع الثلج وأجواء العمل الباردة (الحاسوب، التلفزيون)، وكنت مرافقاً له عند زيارته للوقوف على حالة العاملين في أجهزة الحاسوب والعاملين في أجهزة التليسينما في تلفزيون أم درمان، ولقد بلغ إهتمام الرجل ما بلغ بالاهتمام بالعاملين في الغزل والنسيج، والأسمنت، وكمائن الطوب، لأن هؤلاء عرضة للإصابة بمرض (ربو القطن)، ومن أبرز اهتمامات الراحل التوسع في خدمات الصحة المهنية وصولاً إلى الاقاليم، وفي هذا المجال ساعد في ابتعاث الأطباء عبد الرحيم كباشي وكمال خالد- أسأل الله لهم الرحمة.. وزهير.. الذي انتقل إلى جامعة الجزيرة.. وعلي صالح أمد الله في أعمارهم ولهؤلاء إنشاء أقسام للصحة المهنية في عطبرةوبورتسودان ومدني. وإمتدت صلات وعلاقات الراحل إلى خارج السودان- بالصحة المهنية بجمهورية مصر العربية، وكندا، والصين، ومن ثمار هذه الصلات والعلاقات، جاء المؤثر الأول والثاني للصحة المهنية بالاقاليم، فالموثر الأول بولاية نهر النيل بعطبرة والثاني بالبحر الأحمر بورتسودان، بمساحات جد مقدرة من الصحة المهنية الكندية، والتي ساهمت في تشييد (عنبر) بمستشفى عطبرة لعلاج العاملين بالسكة الحديد.. وكان المؤثر الثالث في الاقليم الأوسط بمدني في الطريق والذي توقف برحيل الراحل إلى السعودية. لقد أسهم الراحل بقدر مقدر في إنشاء وتأسيس الإدارة العامة للتأمين الصحي، ولقد جلسنا معاً الساعات الطوال في تحضير أول قانون لها عام 1972م، ومازلت أذكر تلك الاجتماعات الطويلة برئاسة صلاح السيد يعاونه الفنان الرسام شريف عبود، والذي ترأس الإدارة إلى أن تم ركنه وانزوى مستشاراً لها بدون أعباء، لقد حظيت الصحة المهنية بمكانة معتبرة لدى ثورة 25 مايو ورئيسها المشير جعفر محمد نميري رحمه الله، وبذلك كان لها المكان المميز في قانون الصحة العامة الأخير. والراحل رجل اجتماعي من الطراز الأول، ولقد مكنته هذه الميزة من فعل الكثير، عندما تولى سكرتارية جمعية الطب الوقائقي برئاسة الدكتور محمد شاكر السراج، ولابد من ذكر صندوق الضمان الاجتماعي ومساهماته الفعالة في فك ضائقة الوقود (البنزين) أيام شدة الندرة فوفروا لعربات الأطباء ما تحتاجه من وقود وبصفة خاصة. ومن تلفزيون أم درمان كان الراحل يعد ويقدم برنامجاً خاصاً بالعاملين بالسكة الحديد بعطبرة، يتناول فيه ثقافة العمل والسلامة، وتغيب الراحل في فترة من الفترات، وأسند لي مهام إعداد وتقديم البرنامج، فكان العائد بعض الجنيهات أتسلمها من المرحوم العم (دميتري البازار).. وللراحل العدد الوفير الوافر من المؤلفات في مجال تخصصه، ومن أهمها وباللغة الإنجلزية كتابه: (الصناعات الصغيرة في السودان) (Small Industries Scale in the Sudan) وفي آخر زيارة لي في منزله ما يقرب من العام وأكثر، وجاء ذكرالكتاب وقال بالحرف الواحد (يطبع) ولست أدري هل (يطبع) هو أم أنا؟. رحل عنا الدكتور يوسف عثمان يوسف الأب الشرعي للصحة المهنية في السودان- وكما قلت إن رحيل الصحة المهنية يؤرخ له بتاريخ إغترابه عبر البحر الأحمر إلى السعودية.. ولا نملك سوى سؤال المولى خالقة الرحمة والجزاء الحسن بقدر ما قدم داخلياً وخارجياً وله السلوى والسلوان. خبير إداري وشؤون صحية