عبد المنعم عبد القادر عبد الماجد مهنة الطب في المقام الأول مهنة إنسانية فالعالم "أبوبكر الرازي" كان من علماء الطب في الأعشاب قام بتأليف العديد من الكتب عن الطب والجدري والحصبة وقال عنه أحد مشاهير الأطباء أن كتابه عن مرضي "الجدري" هو أكبر مرجع طبي وذات مرة سلمه أمير خراسان اموالاً ليعمل بها تجارب لإستخراج الذهب فكان الأمير عاشقاً للذهب والجواهر لكن العالم أبوبكر حول المبلغ من أجل التجارب الطبية لخدمة الإنسانية وحمل كتابه الطبي الذي يحوي تجاربه الطبية الناجعة حمل الكتاب فرحاً وتوجه به نحو الأمير "الجاهل" وسلمه الكتاب فما كان من الأمير إلا أن صاح في وجهه غاضباً "أعطيتك المال لعمل التجارب في الذهب وليس الطب" فضربه بالكتاب على رأسه فسقط الرازي على الأرض مغشياً عليه وأصيب بالعمي وأراد تلاميذه علاجه وأن يعيدوا إليه بصره فقال لهم "لا تعيدوا لي بصري لأنني لا أريد رؤية الجهلاء" جعلت هذه السطور فاتحة شهية للقراء لهذا المقال الذي أتناول من خلاله مستشفي طه بعشر للأمراض النفسية والعقلية هذا المستشفي العملاق الذي يحمل إسمه فارس من فرسان الطب النفسي والعقلي ألا وهو الدكتور طه أحمد بعشر أبن مدينة بورتسودان وأسرته جيراننا حتي يومنا هذا لأكثر من نصف قرن بحي العظمة ببورتسودانجنوب دار الرياضة وأسرة آل بعشر أسرة عريقة التاريخ فالبرفيسور طه بعشر أرسل إلي بريطانيا عام 1954م، للتخصص في الأمراض النفسية وحاز على دبلوم الطب النفسي وكان قد تخرج من مدرسة كتشنر الطبية عام 1949م، وهو غني عن التعريف فقد تتلمذ على يديه الكثير من الأطباء وأنشأ العديد من مراكز الطب النفسي بالأقاليم وعمل في مجال الصحة العالمية بالأمم المتحدة بالإسكندرية كخبير لها وهذا المستشفي العملاق بالخرطوم بحري الذي يحمل اسمه لهو خير مستشفي يقوم بعلاج المرضي فهناك ثلاثة من رواد الطب النفسي والعقلي في بلادنا دكتور التجاني الماحي ودكتور طه بعشر ودكتور حسبو محمد سليمان كانوا يشكلون ثالوث الطب النفسي في بلادنا ورفعوا اسم السودان عالياً بين الدول وكانوا خير سفراء في عالم الطب النفسي والعصبي والعقلي عاشوا حياة عريضة تجاوزت في إتساعها وعمقها كل حياة في هذه الدنيا هؤلاء العمالقة عالجوا المرضي بحلو الكلام وحلو المقابلة قبل العلاج باستخدام العقاقير وبالأمس القريب شاهدت بمستشفي طه بعشر للأمراض النفسية والعقلية في الخرطوم بحري شاهدت كوكبة من الأطباء العاملين بداخلها يسيرون على درب عمالقة الطب النفسي الذين ذكرتهم إنهم فتية من كرام القوم بل من كرام الأطباء يسهرون على علاج المرضى يعملون صباحاً ومساء بلا كلل وبلا ملل شاهدت الإبتسامة تكسو وجوههم إنهم رسل الإنسانية وعلى رأسهم الدكتور الإنساني صلاح الدين هارون دخلت على مكتبه وهو يحمل هموم المرضى وهموم العاملين بالمستشفي فهو المدير العام والمرضى يتدافعون نحو مكتبه يقوم بعلاجهم فهو يحمل كما ذكرت هموم الأطباء وهموم الإدارة من إعداد المرتبات للعاملين بالمستشفي فطبيب يحمل هموم المرضى وهموم الإدارة في آن واحد ويؤدي واجبه باخلاص وتفان والإبتسامة لا تفارق شفتيه والدكتورة علبة المهدي التي كانت تطوف على المرضي وتستمع إليهم بصدر رحب ثم الدكتورة ريم الجيلي شاهدتها تخرج من المكتب حينما علمت ان هناك مرضى لا يستطيعون الوصول إليها هرعت إليهم وهم جلوساً في الصالة لتقديم العلاج إليهم شاهدت هذا المشهد الإنساني الذي إن دل على شيء إنما يدل على أن الأطباء والطبيبات الذين يعملون بهذا المستشفى يحملون معهم هموم مرضاهم أكثر من همومهم الشخصية فهذه خامات إنسانية محلية وأفكار ملتصقة بالمرضى ويمكن لهؤلاء الأطباء الأفذاذ أن يصنعوا بأعمالهم الإنسانية الطبية ظروفا مواتية لعلاج المرضى، لقد شاهدت بأم عيني وبصالة المستشفي التي تعج بالمرضي والمرافقين لهم شاهدت كيف يعتني هؤلاء الأطباء بالمرضى عند دخولهم عليهم إنهم بحق وحقيقة يسيرون على درب المربي الكبير بروفيسور طه بعشر الذي كان يبحث عن مرضاه ويسأل عن أحوالهم ويتفقدهم ولم يعالج مريضة بالدواء فقط بل كانت كلماته الحانية أحياناً هي الدواء الذي يخفف على المريض الآلام وكان طبيباً نفسياً قادراً على معالجة الإكتئاب وحالات اليأس وخيبة الأمل زارع الأمل في قلوب اليائسين فهو شخصية لا تتكرر في زماننا هذا ذكرت طه بعشر فاستهلت مدامعي بشوق إلى عهد الصبا المتقادم ودمع لا يكفكف طه بعشر والعاملون بمستشفي الأمراض النفسية والعقلية في الخرطوم بحري ظل ولازال عطاؤهم الطبي لا ينضب معينه أبداً أبداً وهناك الدكتور أحمد السر مدير طب الحوادث بالمستشفي الذي ظل مكتبه مفتوحاًَ للجميع يؤدي واجبه الإنساني نحو الكل ثم الدكتور الشاب خضر صاحب التواضع الجم بقسم الحوادث ما بخلوا أبداً بعطائهم العلمي نحو كل المرضى فان كان بروفيسور التجاني الماحي تعاطى السياسة مع عمله في مهنة الطب وكذلك الدكتور بل البروفيسور طه بعشر تعاطى العمل السياسي مع مهنة الطب فكان أحد قادة ثورة 21 أكتوبر 1964م, وكان من الذين طرحوا إقتراح إعلان العصيان المدني والإضراب السياسي ضد نظام الفريق إبراهيم عبود مع زملائه الماحي عابدين إسماعيل والقاضي عبد المجيد إمام حتي سقط نظام الفريق إبراهيم عبود وعند وفاة دكتور طه بعشر قال في رثائه الأستاذ فاروق أبو عيسي "نحن كنا زملاءه في العمل السياسي فكان رجلاً وطنياً من الطراز الأول واستمر في عطائه السياسي والمهني والطبي وكانت قمة عطائه في ثورة 21 اكتوبر 1964م, حيث التقي مع زملائه الأطباء دكتور علي محمد خير وجعفر كرار وكان طه بعشر وقتها سكرتير نقابة الأطباء وكان في مقدمة موكب القضاة والمحامين الشهير في ثورة أكتوبر.. وكذلك رثاه مدير جامعة الخرطوم السابق محمد أحمد الشيخ.. إن مستشفي بعشر بالخرطوم بحري حمل اسم هذا العملاق وظل كل الأطباء العاملين به يعملون باخلاص فلقد شاهدت ذلك بأم عيني في طاقم الأطباء الذين يقودهم الدكتور الإنسان صلاح الدين هارون مدير المستشفي فلله درهم من أطباء وطبيبات ظل ديدنهم عنايتهم بالمرضى وتعاملهم الإنساني معهم لم يسعوا لمجد يتسلقون عتباته وسلالمه فهم المجد والمجد منهم فأعمالهم الإنسانية التي يقومون بها نحو المرضى وغير المرضى أوصلتهم إلى طريق المجد لا أقول المجد المخملي بل أقول المجد المعملي وهناك باحثون وباحثات اجتماعية اللاتي يلعبن دوراً كبيراً في علاج المرضى وغيرهم من المساعدين الطبيين من أمثال صديق سليمان إنهم أطباء يفوح منهم عبير الإنسانية الفواح الذي قد لا يجده المريض في العديد من المستشفيات الأخرى فإن كان للسياسة عرش وللخلافة عرش فعرش مستشفي طه بعشر هو عرش الجمال والجمال جمال العناية بالمرضى هذا الجمال الذي شاهدته إنما هو جمال مهنة الطب الإنسانية على الطبيعة بلا رتوش فالمريض الكلمة الحلوة والطيبة تجد عنده أذناً صاغية فالأطباء والطبيبات الذين ذكرهم القلم كلهم يشكلون سمفونية طبية مكتملة الأضلاع تقع هذه السمفونية على المريض بلسماً شافياً بإذن الله تعالى فالمريض يتلهف للقاء طبيبه ليبحث بين ثنايا حديثه كلمة رطبة أنيقة تدغدق مشاعره المحترقة فسوف تظل مستشفى بعشر بالخرطوم بحري نموذجاًَ للعطاء الإنساني من قبل الأطباء والعاملين بالمستشفى وستظل أرض المستشفى فكراً خصيباً وتربة صالحة لعلاج أمراض الطب النفسي والعقلي طالما أن الطب النفس غذاء للعقول المريضة ورياحين للنفوس السقيمة فأطباء المستشفى ببحري ربطوا ماضيهم بحاضرهم طبياً وساروا على دروب دكتور التجاني الماحي ودكتور طه بعشر ودكتور حسبو محمد سليمان دهاقنة الطب النفسي والعصبي في بلادنا رحمهم الله والذين تربعوا على عرش رئيس الجمعية الطبية السودانية في حياتهم فكانوا موسوعة طبية بشرية متحركة بين الناس عامة والأطباء خاصة بل كانوا موسوعة إنسانية طبية يدورون حول الناس مثلما يدور الآن الأطباء والطبيبات بمستشفى بعشر فهنيئاً لهذا المستشفى الذي يحمل اسم دكتور طه بعشر وهو الدكتور الوحيد بعد الدكتور المرحوم محمد أحمد علي وزير الصحة في عهد الفريق إبراهيم كلاهما لم يفتحا عيادة خاصة بهما حتي وفاتهما فالتحية لأرواحهما الطاهرة والتحية لكل العاملين بمستشفى الأمراض النفسية والعصبية والعقلية بالخرطوم بحري فهي من أمهات المستشفيات بالعاصمة المثلثة.