وقف روَّادُ الأسواق معقودي الألسنة مأسوري الخيال أمام أسلوب الذكر الحكيم وآياته التي تناولت لغة الخطاب بنسقٍ هو الإعجاب الداعي إلى الاستسلام والاعتراف بالعجز واللجوء إلى إلقاء السمع مع التوقير. لقد استمع رواد أسواق عكاظ وذي المجاز وذي المجن لبيان القرآن الكريم وأدركوا أن هذا التناول في معناه ومبناه يقدم نسيجاً من المعجزات يعلو هامات أنماط التعبير التي ألِفوها في حياتهم الأدبية والفكرية. «الم ذلك ذلك الكتابُ لاريبَ فيه هدًى للمتقين»1 البقرة، فجمال التعبير هنا قد اجتمع بمكوناته في الحرف «في» مع الضمير «الهاء»، فانظر قارئي العزيز هذا الربط البياني الساحر «ذلك الكتاب لاريب» «فيه هدى للمتقين»، ومن جانب آخر «ذلك الكتاب لاريب فيه» «هدى للمتقين». ف في القراءة الأولى وقفنا عند«ريب» ونفيناه عن الكتاب وأثبتنا أن فيه هدى للمتقين، وفي الثانية أضفنا «فيه» للريب لتوكيد النفي، وإذا جاء التوكيد على النفي فالنتيجة هي «هدى للمتقين»الذين يتقون صفات الجلال ويفرون إلى صفات الجمال «ففرُّوا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبينٌ»50 الذاريات. ومن الصور المشرقة في تداعيات المعاني المفعمة بالأبعاد اللغوية الساحرة للألباب قول الحق تعالى «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28) فادخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي (30)» «الفجر»، فالمدخل الأول هو مخاطبة النفس المطمئنة التي علت على اللوامة والأمارة بالسوء، ودعوتها يوم يقوم الناس لرب العالمين، وذلك لإرجاعها إلى ربها الله الذي رضي عنها وأكسبها الرضا عنه، كما دعاها للدخول في زمرة العباد ومصاحبتهم إلى الجنة، ويتداعى المعنى ليأتينا من زاوية ثانية مضيفاً بُعداً جديداً «يا أيتها النفس المطمئنة» ينادي المنادي بهذا المعنى وهو يقصد بالنفس هنا «الروح» فيقول: يا أيتها الروح المكتسية بالاطمئنان المتوشح بالرضا ارجعي إلى ربك أي إلى جسم صاحبك لتُدخلي فيه الحياة وبدخولك في أجسام عبادي تصبحين دليلاً لهم إلى الجنة. وتتصل قمم التعبير لتضيف إلى عوامل إقناع مُلاَّك نواصي الكلم عوامل أخرى وتطوف بهم حول ما تتناوله الألفاظ من مستتر المعاني التي تختفي كلماتها وتغيب عن السطور لتعيها الصدور وهي تنبع من مألوف القول السائد بينهم، فإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة فإن قناعتنا ستزداد رسوخاً بشأن قوة قدرة نفاذ المقصود إلى العقول، يقول الله تعالى «قل ما يعبأُ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما» 77 الفرقان». من المسلمات أن الناطق بغير العربية يواجهُ صعوبةً في فهم هذا النص، وذلك لغياب بعض الكلمات التي يرى العربي الأصيل في غيابها جمالاً يكسو الأسلوب ويزين مظهره وجوهره... فتفسير هذا النص يجري كما يلي: قل يا محمد ما الذي يدعو الله سبحانه وتعالى ويحمله على حَمْلِ عبء عذابكم لولا توجهكم بالدعاء إلى غيره إشراكاً، وبهذا الدعاء قد أظهرتم كذبكم المتمثل في عدم مراعاة العهد الذي قطعتموه على أنفسكم عندما قيل لكم: ألستُ بربكم وقلتم: بلى، ونتاجاً لهذا الكذب فإن العذاب سيكون لزاماً واقعاً وجزاءً وفاقاً لما اقترفتم من خطيئة هي من أعظم الخطايا وأكبرها وهي الكفر بالله.