ويستحضرني في هذا السياق موقف مؤثر جدير بالتسجيل والوقوف عنده ملياً لنستلهم منه العبر والدروس حتى نعطي مالله لله ومالقيصر لقيصر.. والأمر يتعلق بأحد أخوتنا المهاجرين من الرجال الذين كانوا يمثلون قامات سامقة في وطن الجدود، قبل أن تجبرهم ظروف الحياة وشظف العيش على اختيار جزئية الاغتراب مكرهين، وصديقي الذي أنا بصدد سرد واقعته الأليمة رجل عمل في دواوين الدولة، وفي قمة هرمها، وكانت له صولات وجولات، حيث خدم الدولة بعرقه وكفاحه المسلح وفكره الثاقب، وأفنى زهرة شبابه، وهو يقدم الجهد والعرق في انبل الميادين العسكرية، قبل أن يستقر به المقام هنا في أرض الطهر والنقاءالمملكة العربية السعودية ليكمل مسيرته العملية خارج حدود المعمورة.. حيث قال لي محدثي وهو رجل دولة لا يستهان به- والحسرة تملأ جوارحه- إن ابنته قد أحرزت نسبة مئوية مشرفة في امتحانات الشهادة العربية، وتحصلت على نسبة وصلت الى 99.7%وهي نتيجة مشرفة دون شك،، ولكنه- والحديث لايزال لمحدثي- فقد قال إنه قد فوجئ وهو يسافر مع ابنته الى السودان للتسجيل في الجامعة بأن نسبتها لا تمكنها من الدخول للجامعة كقبول عام، والقبول العام يعني دفع رسوم رمزية، بحكم أن الطالب أو الطالبة قد أحرزوا نتيجة علمية رفيعة، وهو أمر لم يجد له زميلنا المغترب ورجل الدولة السابق اي تفسير، إذ لا يعقل أن يحرم طالب الشهادة العربية من المنافسة في القبول العام، وهو يحرز تلك النسبة التي تعتبر قريبة من النسبة الكاملة، فما كان من محدثي سوى أن يرضخ الى النظام المتبع، ويذعن للأمر القسري، ويبدأ في اجراءات التسجيل لابنته عبر القبول الخاص، الذي تأتي الرغبة من ورائه في مص دم أولياء المهاجرين، فكان لابد من مالابد منه بد، ورغم ضخامة المبلغ المطلوب وهو 16 مليون جنيه سوداني بالتمام والكمال تخيلوا قرائي هذا المبلغ لطالب العلم السوداني، الذي ولد وترعرع بين أحضان هذه الأرض البكر، وكانت ثالثة الأثافي بل الطامة الكبرى أن السيد المسجل أصرَّ وألحَّ الحاحاً، وطالب بأن تدفع القيمة كاملة غير منقوصة، دون أن يكون هناك أدنى مجال للتقسيط المريح،أو غير المريح حيث رفض المسجل في إباء وشمم أن يتم تقسيط المبلغ، ولم تجدِ معه كل محاولات صديقنا المغترب في تجزئة المبلغ، حتى ولو على قسطين، ولما كان المبلغ المطلوب كبيراً وفوق طاقة محدثي فقد طرق محدثي كل الأبواب، وبحث عن أي واسطة تساعده في تقسيط المبلغ الى ثلاثة أقساط أو قسطين على أقل تقدير، وبعد الحاح ورجاءات وإراقة ماء الوجه، تم تقصيد المبلغ الى دفعتين بواقع 8 ملايين لكل دفعة، ولم يكتفِ محدثي بذلك بل أنه قال لي بإنه كان قد قدم طلب انتساب عبر البريد الاليكتروني لجامعة عين شمس المصرية، ولكنهم لم يتابعوا الأمر بجدية، ولكن وبعد مرور شهر ونصف الشهر على انضمام ابنته الى الجامعة السودانية، تلقوا إشعاراً بريدياً من إدارة جامعة عين شمس المصرية بقبول الابنة في الجامعة في كلية الطب، التي يدرس بها شقيقها هناك، حيث أوعزنا إليه أن يتابع الأمر ليتحقق من صحة الايميل المرسل لهم، وإخطارهم بذلك على جناح السرعة، وكانت دهشة محدثي عظيمة عندما أخطرهم ابنهم عبر الهاتف مؤكداً بأن القبول قد تم، وأن كل المطلوب كعربون لدراسة ابنتهم في جامعة عين شمس لايتعدى آل«300» استرليني للعام الواحد، تخيلوا أحبائي القراء عام كامل في دراسة الطب في جامعة عين شمس يعادل 300 جنيه استرليني، بينما العام عندنا وفي بلدنا وأمنا الرؤوم السودان يصل الى 16 مليون جنيه يا لسخرية الأقدار ... فلم يكن من محدثي سوى أن يقوم باصطحاب ابنته الى جمهورية مصر العربية ودفع الرسوم المشار اليها، والتضحية بالقسط الأول المدفوع في الجامعة السودانية وهو 8 ملايين جنيه سوداني بالقديم وبالفعل التحقت الابنة بجامعة عين شمس، وهي لا تزال في مرحلة التحصيل العلمي في كلية الطب.. ولكم أن تتخيلوا بني وطني مايحدث هناك في دولة شقيقة، ومايحدث لنا هنا في بلدنا، الذي ترعرعنا بين أحضانه، ونهلنا من ترابه وشربنا من نيله العذب، ورغم ذلك نلاقي ويلات العذاب ونشعر بالفعل بانه لا كرامة لنبي في وطنه، وهو أمر يحز في النفس كثيراً أن تجد التقدير والفرص المناسبة في دول الجوار، بينما تفتقدها في وطنك الأصل. وحقيقة نحن لا ندري متى سيأتي الوقت الذي سننعم فيه بمجانية التعليم، لكل أبناء الوطن مهاجرين ومقيمين في كل مراحل التعليم، بدءا من الأساس ومروراً بالمتوسط والثانوي، وانتهاءاً بالتعليم الجامعي الذي هو غاية المنتهى لكل طالب علم، بعدأن بات التعليم يمثل عقبة كؤود في طريق الآباء، خصوصاً المعسرين منهم، وذلك حتى لا نجبر الآباء وفلذات الأكباد على ترك مقاعد الدراسة الثانوية والجامعية مكرهين، بسبب ضيق ذات اليد، فنكون بذلك قد ساهمنا في حرمان البلاد من بعض الكفاءات المقتدرة، التي قد تساهم بفكرها وعلمها وقدراتها الذاتية في تغيير نمط الحياة المستقبلية لوطن الجدود.. إننا ندعو المعنيين بالأمر الى دراسة هذا الأمر دراسة مستفيضة، والسعي بروح المواطنة الحقة الى سبر أغواره وفك طلاسمه، بما يتناسب مع الظروف الاقتصادية القاهرة التي تمر بالمهاجر والمقيم على حد السواء.. واللهم اني قد بلغت اللهم فاشهد... اللهم فاشهد .