مجمتع الشرطة بيت جميل.. أساسه الانتماء والولاء.. بابه الرحمة والسلوى.. وباحته الحفاوة والكرم وجدرانه التآزر والترابط.. وسقفه المحبة والإحساس بالآخر.. وطلاءه الفكاهة والمرح..وعنوانه الإحترام والتقدير.. وهذا ما ألفناه وعهدناه في مجتمع قبيلة الشرطة طوال سنوات عملنا فيها وفي أيامنا الحالية ونحن بالمعاش.. ومع ذلك نجد أن هنالك بعض من منسوبي الشرطة ، وهم قلة ، ينتاب إنتماءهم لهذه القبيلة ضعف بائن ، إذ لا يجمعهم بها سوى «الكاكي» الذي يرتدونه فقط ، وهي نوعية تعمل على تلطيخ طلاء بيت الشرطة ببقع الجفاء.. وتتسبب في تشقق جدرانه بإنعدام الإحساس فيهم بالانتماء والولاء لهذا المجتمع الجميل.. وهنالك بعض من المواقف تعكس صدق ما ذكرت من قبح سلوكيات من ينتمي لهذا المجتمع بطريق لبس «الكاكي» فقط.. فقد ذهبت قبل حوالي الاسبوعين برفقة السيد حماد عبد الرحمن صالح الذي كان قد قدم للسودان من كندا لأيام معدودات ، وبرفقتنا شقيقه آدم لاستخراج الرقم الوطني من مكاتب السجل المدني بإدارة المغتربين بشارع محمد نجيب.. ولما فشلنا على مدى يومين متتالين في الحصول على استمارة التقديم وذلك لحضورنا ا لمتأخر بعد الساعة العاشرة صباحاً.. ذهبت لمكتب الضابطة المقدم شرطة «س. م» .. مددت يدي تجاههاً محيياً فكان سلامها ب «أطراف الأصابع» كما يقولون.. وعلى وجهها المتهجم نظرة «ده شنو كمان داخل كده وعامل الحالة واحدة».. تغاضيت عن انطباعي وعرفتها بنفسي بأني ضابط بالمعاش وطلبت منها التفضل بالتصديق لي بالحصول على استمارة التقديم لاخفاقنا في الحصول عليها لمرتين.. ولدهشتي.. رفضت سيادتها الطلب بكل فظاظة وقالت«ما عندي ليكم استمارة»، أنا طلعت 280 واحدة من الصباح ولو أديتكم واحدة معناها إني أبيت هنا الليلة!! ودار بيننا حديث لا طائل ولا فائدة من ذكره للقارئ الكريم إذ يمكن له أن يتخيله.. وتذكرت في تلك اللحظة مقولة السيد اللواء أحمد المرتضى ا لبكري « تقيأت ثلاثين عام قضيتها في خدمة الشرطة» وذلك عندما تعرض سيادته لموقف سخيف ومحرج مع واحد من الفئة التي وصفناها من قبل.. وتذكرت أيضاً الموقف المخجل الذي تعرض له ضابط بالمعاش كان على موعد عمل مع نائب مدير عام الشرطة الأسبق ، وكان قد حضر للدخول من البوابة الشرقية لوزارة الداخلية ، فرفض عسكري الاستقبال إدخاله وطلب منه الذهاب للدخول من البوابة الغربية بلا مسوغ معقول ، وعندما حاول ذلك الضابط الدخول فوجئ بعسكري الاستقبال يهاجمه من الخلف ويضربه بالبوينة على أم رأسه.. ولكن وعلى النقيض تماماً أحكي لكم موقفاً يوضح جمال مجتمع الشرطة الذي ذكرته في مقدمة الخلاصة ، فقد أوصلت في الاسبوع الماضي السيد عبد اللطيف أرشد باكستاني الجنسية وقد كان رئيسي السابق بالوحدة الاستشارية للسجون ببعثة الأممالمتحدة في السودان ، أوصلته للمطار وهو في طريقه بسودانير لجوبا.. أُلغيت السفرية وتم استلام الركاب وتسجيلهم بواسطة موظف سودانير لارسالهم عبر خطوط أخرى فانصرفت.. وبعد حوالي نصف الساعة اتصل بي أرشد وأفادني بفشل مساعي سودانير ، غير أن طائرة «فيدر إير لاين» على وشك الاقلاع لجوبا ولابد له من السفر بها فطلبت منه ان يعطي التلفون لأي شرطي يلقاه بالمطار.. وبالفعل عثر على أحدهم وأعطاه التلفون.. ومع قولة «السلام عليكم» جاءني الرد «وعليكم السلام ياراقي» فاطمأنيت.. عرفته بنفسي وعرفت أنه عريف شرطة محمد ملاح غبوش من شرطة السياحة.. شرحت له موقف أرشد وطلبت مساعدته لحين وصولي للمطار فرحب بتقديم كل المساعدة.. ولكن الموقف الأجمل كان من الموظفة نشوى السر بشركة «فيدر إير لاين» والتي تحدثت اليها بالتلفون فافادتني بإمكانية سفر أرشد على طائرتهم من المغادرة آنياً ، غير أن مامعه من مال لا يكفي لثمن التذكرة ولا وقت لاسترداد قيمة تذكرة سودانير قبل قفل الميزان ، فطلبت منها أن تحجز له مقعداً وتقطع التذكرة ليلحق بالطائرة إلى حين إحضاري لثمن التذكرة فقامت بعمل ما طلبته بالفعل.. وعندما وصلت المطار لم ألحق بأرشد لأنه كان داخل الطائرة.. فتوجهت مع العريف شرطة محمد ملاح للأستاذة نشوى السر وسلمتها مبلغ ستمائة جنيه قيمة التذكرة ، وخطر ببالي مقارنة بين الموقفين.. موقف ضابطة السجل المدني التي رفضت تسليم مجرد استمارة تقديم لزميل سابق.. وموقف العريف ملاح الذي يقوم بخدمة زميل بمجرد اتصال هاتفي.. وموقف الأستاذة نشوى التي قامت بتقدير الموقف واتخذت قرارها وبلا تردد ، فوجدتها فتاة شهمة ذات مروءة.. وذات حساسية عالية تمكنها من قراءة مصداقية من تتعامل معه ، حيث قامت بإصدار التذكرة وهي تعلم تمام العلم بأنها ستتحمل قيمة التذكرة إذا لم أظهر لها بعد ذلك ولعمري تلك هي المروءة بعينها.. وصدق رسول الله «صلى الله عليه وسلم» إذ يقول «الخير في أمتي إلى يوم القيامة».. والأستاذة نشوى السر عنوان جميل لشركة «فيد إير لاين» ولزملاءها أيضاً فهي خير مثال لمن يوضع في موضع التعامل مع الجمهور.. إن العمل في المواقع التي يتم فيها تقديم الخدمة إلى الجمهور يحتاج إلى نوعية خاصة من العاملين أمثال محمد ملاح ونشوى السر، إذ يقتضي التعامل مع الجمهور التحلي بصفة الرفق.. ورحابة الصدر وبذل كل ما هو ممكن ومتاح وإن اقتضى الأمر.. يكون الإعتذار بلباقة وتهذيب ، ومساعدة المواطن على تحمل عبء الإجراءات الضرورية لضبط العمل.. وعلى النقيض فإن مثل ذلك التعامل الجاف والكلام «المُر» الذي بدر من ضابطه السجل المدني يعمل على فتق نسيج التعاضد والتآزر بين العاملين في الخدمة في الشرطة وبين من هم في المعاش.. هذا النسيج الذي شارك في نسجه أجيال الشرطة الخبرة في السابق والحاضر.. وإنني إذ استعيد تصور ذلك الموقف الغريب أسأل نفسي.. إذا كان ذلك سلوك ضابطه من القيادات الوسيطة مع زميل سابق.. فكيف إذاً يكون سلوكها وتعاملها مع مواطن مسكين وغلبان.. أكيد «ح تهرسو هرس»، وليس لي إلاَّ أن أترك الأمر برمته بين يدي السيد مدير دائرة السجل المدني إذ أن المحافظة على ذلك الإرث الجميل الذي ذكرته آنفاً هي مسؤوليتنا جميعاً.. وما يقوم به أمثال ضابطة السجل المدني.. في تصوري. وميض نار في بيت الشرطة وأخشى أن يكون لها ضرام.. وما النار إلاَّ مستصغر الشرر .. ألاَّ هل بلغت .. اللهم فأشهد.