النائب سليمان سليمان إدريس بالمجلس التشريعي لولاية الخرطوم -الذي لا أعرف انتماءه السياسي- يستحق الثناء والشكر، لإثارته قضية من القضايا التي تؤرق المواطنين العاديين وغمار الناس الذين يمضون سحابة نهارهم وهزيع ليلهم كفاحاً في سبيل توفير لقمة العيش و«سترة الحال» لأسرهم وعيالهم. فيوم الخميس الماضي نهض النائب إدريس مدعوماً بأصوات عدد من زملائه في مواجهة وزير المالية الولائي الجديد، الذي قدم تقريراً عن أداء الوزارة للعام المنصرم وخطة عهدته الجديدة للعام 2010، فأشار النائب، دونما وجل، «للمشاريع الفاشلة»، التي لا يحاسب منفذوها ولا القائمون عليها، وحديث الولاية المكرور والمعاد مع كل عام جديد وموازنة جديدة عن تأمين «قفة الملاح» وتيسير «المعيشة» دون أن يشعر المواطن أو يحس أن شيئاً من هذا يحدث أو يتحقق، وتأسف السيد النائب على تجاهل ميزانية الولاية للمشاريع الزراعية التقليدية التي تروى بالطلمبات والتي كانت توفر الحد المعقول من الأسعار لقفة الملاح، مشيراً إلى أن الآليات الزراعية المستحدثة والمتطورة أصبحت خصماً على الانتاج. فلا نحن استفدنا من وسائلنا التقليدية التي اعتادها المزارع وتتناسب مع ثقافته الزراعية وقدراته المالية، ولا استطعنا التكيف والاستفادة من الوسائل الحديثة حتى تحل محل أنماط الانتاج التقليدية، فضاعت «قفة الملاح» بين الاثنين وهبطت لترتاح على كف «عفريت الغلاء»، فإذا بالناس يجأرون بالشكوى، ولا مجيب. تصدمك وتدهشك بين كل يوم وآخر، وبين كل شارع وآخر، حالات التسول، الذي كان ناس السودان ينظرون إليه من قبيل «العيب» الذي لا يقدم عليه إلا مضطر تقطعت به السبل، فأصبح أمراً معتاداً أن يفاجئك شخصاً في كامل سمته وزيه السوداني الأصيل ماداً يده «بذل السؤال» مشفوعة باعتذارات تقطع نياط القلب بأنه أبو عيال يتضورون جوعاً ولم يجد سبيلاً لتوفير الحد الأدنى مما يشبع جوعتهم وأنه في غاية الأسف أن يضطر لسؤال الناس إلحافاً ولكنه لم يجد سبيلاً آخر لتوفير «قفة الملاح» لهؤلاء الصغار الذين لا يطيقون صبراً على الجوع ولا يرحمون وقاره ولا عزة نفسه، فتتجاوب معه بعد أن يكون قد غرز نصلاً دامياً في قلبك ومشاعرك. نعم توجد مشاريع عملاقة حول العاصمة في ريفي أم درمان الشمالي وريفي بحري، وهناك مشروع سوبا الذي انشئ خصيصاً منذ عهد مايو لتوفير «قفة الملاح» للخرطوم، وهناك مشروع السليت في شرق النيل وهناك مشروع سندس الذي ظل «مشروعا» لما يقارب العقدين من الزمن دون ان يكافئ مستثمريه من المغتربين أو المقيمين ودون أن يساهم في توفير الطعام الرخيص. مشاريع كما قال السيد النائب المحترم استهلكت المليارات من أموال الخزينة العامة وأموال الشعب دون أن تحقق أي من أحلام الوفرة والرخاء التي قامت لأجلها، وأحد الأسباب الجوهرية لكل ذلك الدمار هو ما قال به النائب «غياب المحاسبة»، فقد ذهبت هذه المشروعات إلى إدارات ومحاسيب سياسيين يجيدون «فسخ الجوخ» للسلطات في كل محفل، فتتجاوز السلطات بذلك عن قصور كفاءتهم وتقصيرهم في أداء واجباتهم العملية، التي يستعيضون عنها بمعسول الكلام وباذخ اللغة يستمطرون بها رضاء الحاكم والسلطات فينجون بذلك من المساءلة المؤسسية ويتفادون الحساب.من يصدق أن كيلو اللحم الضاني قد قفز خلال شهور معدودة من (17.15) جنيه إلى (24) جنيهاً، وان كيلو الدواجن لا يزال يراوح بين ال(12،13) جنيهاً وأن أسعار الخضار قد بلغت شأواً بعيداً حتى أصبح كيلو الطماطم يراوح بين ال(10،15) جنيهاً حسب الصنف، بينما فاجأ السكر الجميع حتى بلغ سعر الجوال 150 أو 160 جنيهاً مما اضطر الدولة للتدخل ومحاولة القضاء على آفة الإحتكارية. وهي أسعار عالية حتى قبل موجة الغلاء والزيادات الأخيرة في بلد تقع الأغلبية الغالبة من سكانه تحت خط الفقر. وإذا ما سألت وفتشت عن سبب هذا الغلاء الذي يطحن الناس وحّول بعضهم إلى متسولين على أبواب البيوت وباب الله والشوارع، تكتشف من النذر اليسير الذي يتوفر من معلومات أن الدولة هي السبب المباشر في كل هذا الذي نراه من غلاء، بدءاً من الضرائب الباهظة التي تفرضها على المنتجات، فمن يصدق مثلاً ان جوال السكر لا تزيد تكلفته الفعلية عن 50 جنيهاً، ليتضاعف سعره بفعل رسوم الانتاج والضرائب الحكومية والنقل ليصل إلى أكثر من مائة وعشرين جنيهاً، ثم حدث ولا حرج عن الضرائب والجبايات التي تفرض على المزارعين والأسواق وحتى على الأطفال الذين يدحرجون «الدرداقات».فالدولة، التي يجب أن يكون همها الأول ومسوغ وجودها هو تنظيم حياة الناس وتوفير الأمن والرعاية الاجتماعية، أصبحت عالة على المواطن تُفتش عن آخر قرش في جيبه وتنتزعه منه بعشرات الوسائل، وإذا كان جيبه خاوي الوفاض، كحال الكثيرين من أبناء وطني، فما عليه إلا أن «يضرب الشارع» تسولاً ليحصل أو لا يحصل على ما يقيم أود عياله. فأي دولة تتخلى عن مسؤولياتها المباشرة وواجباتها الملحة تجاه مواطنيها فإن مصيرها الاضطراب إن لم يكن الزوال، بغض النظر عن ما ترفعه من شعارات وما تصدح به حناجر مسؤوليها من هتافات وأهازيج لا تغني ولا تسمن من جوع، «فالجوع كافر» كما يقولون، و«قفة الملاح» لن تنتظر الحلول السياسية.