كنا طلاباً في الجامعة وذهبنا إلى زيارة أحد ذوي قربانا وأصدقائنا المرحوم مصطفى الشنقيطي، مصطفى محمد علي الطيب وأسموه «الشنقيطي» لأن خاله السياسي الوطني والقاضى والعالم القانوني والشرعي محمد صالح الشنقيطي- رحمه الله- وهو من أعلام السودان وكان مصطفى يعمل في «فانيان» « Vanyan» وحضر السيد عبد الله الفاضل المهدي وحيا الجميع ونحن أبناءه الطلاب بابتسامة، ثم اشترى ساعة من المحل.. وليس هذا بيت القصيد.. ولكن بيت القصيد هو الشيك بالمبلغ الضخم الذي سلمه إلى الخواجة طالباً منه توزيعه إلى ابنائه العاملين بالمحل من السودانيين، قال لي مصطفى «رحمه الله» ماتبرع به السيد يساوي راتب أربعة أشهر لكل العاملين، وكنا على أبواب العيد. مصطفى والده القاضى الشرعي الشيخ محمد علي الطيب من أهلنا بالدامر وبربر، وخاله القاضى الفذ الشنقيطي، وظل يحكي هذه القصة عن أعلام ورجال ذلك الزمان من الآباء الأخيار. القصة الثانية حدثت بيني وبين عمنا الاقتصادي الكبير عبد السلام أبوالعلا وأسرة أبوالعلا وعبد المنعم من الأسر العظيمة والخيِّرة في تاريخ السودان، وقد لعبوا دوراً عظيماً في نهضة السودان الزراعية، والتجارية، والصناعية، وكانوا من السباقين إلى عمل الخير بحيث لاتعلم يسراهم ما تنفق يمناهم، وفوق هذا وذاك المسلك الوقور والراقي والأصيل لهم ولجيرتهم في مدينة الرقي والحضارة والعلاقات الانسانية أم درمان، وقد جاورنا لسنوات دار الراحل عبد المنعم محمد، ومن المدهش أنه وبعد رحيله لأكثر من عشرين عاماً ظلت يده البره وعطاياه ممتدة في شخص ابنة عمه وشريكة حياته الحاجة المحسنة سكينة أحمد حسن عبد المنعم، وكانت هنالك صفوفاً خلفية لسرايا عبد المنعم كل جمعة لا يراها من يعبر بالشارع الرئيسي وكان هناك شباك يطل على الشارع الجانبي تمر به صفوف المساكين، بحيث لايرى الشخص إلا يد الشخص الذي تمتد إليه يده بالبر والخير ولكن لايرى وجهه فتأمل.. وقد كان الذي يجلس في هذا الموقف كل جمعة هو المرحوم عبد المنعم محمد نفسه واستمر الحال بعد وفاته. أما قصتي مع عمنا عبد السلام وابنه الأخ الكريم فؤاد فهي بسيطة فقد كنت أستأجر شقة صغيرة في عمارة أبوالعلا القديمة من النوع الذي يسميه الانجليز «استديو» وكنت آنذاك طالباً في الجامعة، وكان معي آنذاك زملائي في دراسة القانون الأساتذة والدكاترة فيما بعد محمد البربري وأحمد دياب وعباس محمد الأمين وغيرهم، وعندما تخرجت شعرت بأنني لا أحتاج لهذه الشقة رغم أن ايجارها كان ثمانية جنيهات فقط، فحملت المفاتيح وذهبت إلى شركة أبو العلا العقارية لتسليم مفاتيح الشقة، ولمحني عمنا عبد السلام وأنا أدخل إلى مكتب فؤاد أبو العلا-عليهما الرحمة والرضوان- فسألني جبت المفاتيح ليه يا عمر يا ابني؟ حد اتكلم معاك..؟ فقلت له أبداً يا عمي عبد السلام أنا اتخرجت وسوف أتحرك إلى منزل الأسرة في أم درمان، فقال لي: ليه يا ابني أنت قانوني والمكتب ده حينفعك في يوم من الأيام، فتأمل.. صاحب العقار وصاحب الملك.. يفكر في مصلحتك أنت الذي تستأجر منه كأنك أحد أبنائه ولا يلتفت إلى الربح الذي يمكن أن يرجعه العقار إذا أخليته.! هل يوجد أحد كعمنا عبد السلام الآن.؟ وكم عدد الأخيار الذين لهم مواقف كعبد المنعم محمد والامام عبد الرحمن- أكرم من الندى والسيف- وأمثال عمنا الشنقيطي، وعبد الله الفاضل، وعبد الله بيك.. أما مواقف الدرديري محمد عثمان، وبابكر بدري، ويحيي الفضلي، وحماد توفيق، ومحمد نور الدين، وإبراهيم المحلاوي، وما أنفقوا في سبيل وطنهم وقضيتهم ومجتمعهم.. فآمل أن تتاح الفرصة، وانني لأتساءل دائماً أين هؤلاء.؟.