من عجائب أيامنا هذه، سعي الدول الكبيرة، من خلال هيئات ومنظمات تدعمها، لتحويل الدولة إلى كائن بلا أسنان وتجريدها من أهم عنصر من عناصرها ألا وهو السيادة والاستقلال.. فالمواثيق الدولية قامت بدءاً من عصبة الأمم ومروراً بالأممالمتحدة وهيئاتها ومجالسها على احترام سيادة كل دولة وصيانتها من الانتهاك، إلا أن هذه السيادة لم تعد تُرِح كبار الدول، خاصة بعد ظهور الآحادية الدولية والانفجار المعلوماتي والبث الفضائي خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي فغدت سيادة الدول فى مهب الريح.. والكائن البديل للسيادة والقوة، هو الشكل الجديد الذى باتت تأتي به هذه الهيئات والمنظمات من تصنيف للدول إلى فاشلة وسعيدة ومتعاونة أو غير متعاونة مع المجتمع الدولي، وربما تصنف الدول قريباً إلى ناعمة وخشنة وفاتنة وقبيحة ... الخ. خلال الأسبوع الماضي أصدر معهد غالوب الأمريكي تصنيفاً للدول حسب مستوى السعادة فيها، بعد استطلاع عينة من مواطني «155» دولة شملتها الدراسة بالإجابة عن سؤال: عن مدى الرضا العام عن حياة المواطن فى بلده.. وجاءت الدنمارك متصدرة قائمة الدول السعيدة، وعربياً جاءت دولة الإمارات متصدرة الدول العربية والعشرين عالمياً.. ومن عجب أن الدنمارك فى تصنيف آخر لهيئة الصحة العالمية جاءت فى قائمة أعلى الدول معدلاً فى حالات الانتحار، فربما تصل أقصى درجات السعادة بالإنسان إلى الانتحار . وتصنيف آخر بدأ خلال الثلاثة أعوام الماضية هو تصنيف الدول إلى فاشلة وغير فاشلة، الذى تتبناه منظمة الشفافية الدولية ومجلة فورن بوليسى «foreign policy» ، وهى مجلة ذات ارتباط وثيق بمركز القرار الأمريكى.. والتصنيف يتم من خلال «12» مقياساً ومؤشراً عن تماسك الدولة وأدائها وهى: الضغوط الديموغرافية،لاجئون نازحون داخلياً، مظالم جماعية، هروب الأدمغة، تنمية غير متساوية، التراجع الاقتصادى , فقدان الدولة شرعيتها، الخدمات العامة،حقوق الإنسان،الأجهزة الأمنية، نخب متحزبة،التدخل الخارجى. العالم الآن يرتد إلى ماكانت عليه العصور الوسطى طبقة مالكة حاكمة «أوروبا وأمريكا الأن»، وطبقة توزع صكوك الغفران «المنظمات والهيئات الدولية الأن»، وطبقة العبيد المسخرة لخدمة الطبقة الأولى والإذعان لأوامرها «بقية دول العالم الأن». من ينقذ بقية دول العالم من هذا الارتداد القاهر لشعوبها، ومن يحمي شعوب هذه الدول من بث شعور الانهزام والقهر والإذلال واليأس والقنوط الذى تنشره هذه التقارير التى لاتسلم منها أي دولة من غير منظومة الكبار .