تعتورُ الإنسان خلال حياته تجاربُ هي الطَلُّ الثقيل أحياناً، والبردُ والسلام أحياناً أخرى فتذيقهُ الحلوَ والمُرَّ، والأرْيَ والشَّريَ، وعبر كل هذه التجارب تظل عزيمته هي المكوِّن الأساسي لمواقفه، والقالب الذي يمنحه قدرة التَّجاوب مع التجارب سلباً وإيجاباً. قالت البنتُ لوالدها: أبتاهُ إني قد سئمتُ الحياةَ وتكاليفها، وأعيتني ضروب المعضلات. قال الوالد: بُنيَّتي إنكِ ما زلتِ في ريعان الشباب وعنفوانه، فعليك بالصبر إن في الصبر منجاة من كل ضيق، تعاليْ فاشهدي معي هذه التجربة. لقد جاء الوالد بماءٍ في ثلاثة أوعية، ووضع الأوعية على النار، وعندما بلغ الماءُ درجة الغليان وضع في الوعاء الأول جزرةً، وفي الثاني بيضةً، وفي الثالث حِمل مِلْعقة من البن. عاد بعد دقائق من غليان الماء فأطفأ النار وقال لابنته: تعالي لنختبر الجزرة والبيضة وقبضة البن. لقد أصبحت الجزرة رخوة غضة لينةً كادت أن تذوب، وأصبح داخل البيضة صلباً جامداً، أما قبضة البُنِّ فقد ذابت في الماء وقامت بتغيير لونه وطعمه. قال الرجل لابنته: الماء بدرجة غليانه العاليةُ يُمثلُ تجربة من تجارب الحياة القاسية تطوف على الناس، تعجم أعوادهم، فمجموعة الجزر استسلمت ولانت في يأس وخور وضعف على طريق الزوال، ومجموعة البيض تصلَّبت وتحجَّرت وعقد ألسنتها الغضب والصدود والإعراض عن التعامل مع المنطق، أما مجموعة البن فتحركت مع حركة الماء واستطاعت أن تلقي بأثرها عليه فغيَّرت طعمه ولونه. أعود على بدءٍ لأمر طرقتُه وطرقته معي الصحف خبراً وتحقيقاً وتصويراً، إنه أمر هذه الأكوام من الثرى المشبَّع بألوان الأدواء والأسقام حاملاً في طيَّاته أدوات الموت الزؤام وأصحابها لا حياة لهم ولا حياء، يسوقون الأطفال والمواطنين إلى مواطن الموت. بالمعمورة وعلى مرمى حجر من مستشفى الشيخ، ومسجد حاج نور، مطيَّتي علاج الأبدان والأرواح يقع هذا الميدان المحاط بالمساكن والمدارس، إنها الفتنةُ والاختبار لمن هم حول هذا الميدان، فتنة أدعو الله على مثيريها باسم أهل هذا الحيِّ من ضروب الجزر والبيض والبُنِّ أن يبادرهم بإحاطة ظلمهم حول أعناقهم والاَّ تنكشف هذه الظُّلةُ التي غمروا بها الحيَّ إلا وهم بها مصروعون بحق قوله تعالى (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) فاطر (43)، وبحق قول المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: الفتنةُ نائمة فمن أيقظها صار طعاماً لها. وقال جعفر بن محمد: الفتنة حصاد للظالمين، وقال حكيم: صاحب الفتنة أقرب شيء أجلاً، وأسوأ شيء عملاً. وقال الشاعر: وكنتَ كعنزِ السوءِ قامت لحتفِها إلى مِدْيَةٍ تحت الثرى تستثيرها ولعل الجلاء والخلاص لنا يُستمد من قوة هؤلاء الظَّلَمة وتطاولهم فتنقلب عليهم ليكون حالهم كالنار في يابس الشجرْ متى أفنت ما وجدت اضمحلَّتْ وخمدت، وكذا حال الظالم مهلكٌ ثم هالك. وما من يدٍ إلا يدُ الله فوقها ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم وقال صلى الله عليه وسلم للإمام علي كرم الله وجهه: يا علي اتق دعوة المظلوم فإنه إنما يسأل الله حقَّهُ، وإن الله لا يمنع ذا حقٍ حقه. استحلفُ بالله كلَّ من قرأ مقالتي هذه وله إلى أُولي الأمر والحلَّ سبيل.. من والٍ ومعتمدٍ وغيرهما أن يبلغهم ذلك وجهاً لوجه، فلهُ منا الشكر موصول ومن الله حسن الجزاء؛ وليعلمَ القُرَّاءُ أن ثلثي هذا الحيِّ قد تعطَّلا في صورة جزرة هانت ولانت وانكسرت، وبيضةٍ تصلَّبت وانزوت، وبقي الثلث الثالث قبضةً من البن في حاجة إلى قبضات تساندها من أجل تغيير الحال، وليس على الله في الأرض ولا السماء محال، وقد وعد سبحانه وتعالى ذاكريه بالنصر، وأوعد الظالمين بسوء المنقلب - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم(إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) الشعراء (227).