للألفاظ العربية لوائح وقوانين تحكم أداءها في داخل أوعية المفردات والتراكيب، وإن اتباع لوائح هذا الأداء وقوانينه يثير الإعجاب في نفس المتلقي ويدفعه لطلب المزيد من هذا الزاد. هذا وللألفاظ من خلال رحلات عطاء المعاني ائتلاف واتفاق على تبادل المقاعد وذلك لإثراء ما تجود به على المتلقين من متعة القراءة والاستماع. إن بث حماسة الإقدام في نفس من تتحدث إليه أو من تبعث إليه برسالة يتخذ من الصور المعبرة عن المقصود مطايا لبلوغ ذلك المقصود، وإذا أخذنا مثالاً حول دفع الناس لفعل الخيرات أو السير إلى أماكن نرى في وجودهم عندها خيراً، أو مرابض الدفاع عن مقدرات الأمة فلا سبيل لهذا الدفع إلا بانتقاء الكلمة الدَّالة على المعنى بكامل أبعاده، ففعل الخيرات مطيَّتهُ الحضُّ، والسير مطيَّتهُ الحثُّ، والدفاع الذي ربما ينطوي على القتال مطيَّته التحريض ولذا فإن أهل اللغة يقولون: الحضُّ على الخير، والحثُّ على السير، ففي الحض قوله تعالى (ولا يحض على طعام المسكين) الماعون (3)، والسير قد أثبت الحثُّ عليه الحريري وأورده صاحب تاج العروس، أما التحريض فقالوا إن مطيَّتهُ الشر لأن القتال مهما كانت دوافعه فهو شر بسبب إفضائه إلى فقدان أرواح البشر (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) الأنفال (65)، فكما أسلفتُ فإن القتال يُعدُّ شراً رغم انطوائه على خير كثير في موقع هذه الآية وهو نشر دعوة الإسلام وإزاحة طواغيت الصدود، وما نحسبهُ شراً أحياناً فهو خير لنا، وعلى كل حال فإن الحثُّ والحضُّ كما زعم اللغويون مترادفان ترضى كلُّ منهما بصاحبتها أن تحلَّ محلها. وفي مثال آخر لتبادل وظائف الكلمات يأتي قوله تعالى (من جاء بالحسنة فله خير منها..) النمل (89) فكلمة (خير) هنا تأتي لجلب الخير أي أن من فعل الحسنة فله منها الخير. وفي وجه آخر للمعنى تأتي (خير) لتشير إلى التفضيل وتقول: من جاء بالحسنة فله خير منها أي أحسن منها درجة وذلك عن طريق مضاعفة هذه الحسنة إلى حسنات. وإذا كان هذا هو حال بعض الكلمات في تبادل المواقع في اتفاق واتساق فإن هنالك كلمات لا ترضى هذا التبادل ولا تسمح به، فقولنا (خُطْوة) بِضمِّ الخاء وسكون الطاء يعني تحريك القدم إلى الأمام وهذا لايقبل الصلح مع (خَطْوة) بفتح الخاء وسكون الطاء التي تعني المسافة بين القدمين في حالة وقوف المُصلِّي للصلاة على سبيل المثال، وكذلك الحال مع كلمتي (الخِدْمات) بكسر الخاء وسكون الدال و(الخَدَمات) بفتح الخاء وفتح الدال، فالأولى تشير إلى مايتم تقديمه من عون مصدره دولة أو منظمة في صورة خِدْماتٍ صحية أو اجتماعية أو تعليمية أو غير ذلك، والثانية هي جمع خَدَمة بفتح الخاء والدال المشيرة إلى السَّير الذي يُربط في رسغ البعير وقد استُعير لمعنى الخلخال، فانظر قارئي العزيز لمدى خطأ تبادل المواقع بين هاتين الكلمتين.. خِدْمات وخَدَمات. وصلاً لأبعاد المعاني تطالعنا كلمة (السؤال) فهذه الكلمة تأتي خلال محاور ثلاثة أوَّلُها محور الاستفسار للعلم كأن يسأل تلميذٌ معلِّمه عن مسألة بعينها، وثانيها محور الاختيار كأن يسأل معلمٌ تلميذه عن محتوى درس بعينه، أما الثالث فهو السؤال النابع من المسؤولية وحمل عِبءِ رسالةٍ بعينها، وفي إطار المحور الثالث يأتي ردُّنا على بعض المستشرقين الذين قادهم جهلهم بمقاصد الألفاظ وحَبْك معانيها إلى التخليط وإصدار الأحكام الضَّالة. يرى بعضهم أن هناك تعارضاً بين الآيات التي تثبتُ سؤال الناس يوم القيامة وتلك التي تنفيه كقوله تعالى في الإثبات (ولتسئلن عما كنتم تعملون) النحل (93)، وقوله (وقفوهم إنهم مسئُولون) الصافات (24)، وقوله في النفي: (فيومئذٍ لا يُسئل عن ذنبه إنس ولا جان) الرحمن (39)، وقوله (ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون) القصص (78). إن إثبات وقوع السؤال في آيتي النحل والصافات يأتي في إطار المسؤولية أي كل نفسٍ بما كسبت رهينة وعليها حمل ثقل الانحراف عن تَحمُّل الأمانة باقتراف الخطايا، أما نفي السؤال في آيتي الرحمن والقصص فيرمي إلى عدم حاجة الله سبحانه وتعالى للاستفسار عن وقوع هذه الخطايا فهي عنده مرصودة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وفي ختام المقال أهمس في آذان الكتاب والخطباء بتحرِّي الدِّقة في انتقاء الكلمة التي تتفق مع المقصود من المعنى سعياً وراء السديد من القول.