منذ أن كنت بالمرحلة الأولية(-الأساس حالياً- وأنا أجد في نفسي ميولاً للأناشيد والشعر القصصي الذي يرد في كتب المطالعة، «جاء الخريف وصبت الأمطار.. والناس طُرا للزراعة ساروا..» وحكاية الكلب مع الحمامة.. تشهد للجنسين بالكرامة» وغيرها.. وكنا في الفصل نرددها بشكل جماعي.. نجد فيه كثيراً من المتعة.. ونحن نعبر عن المعاني بالتأشير بالأيدي.. أو بتغيير نبرات الصوت- حسب إرشاد المعلم- وعندما التحقت بالمدرسة الوسطى.. وجدت في محلنا التجاري ببربر نسخة من كتاب «شعراء السودان» الذي جمعه الشاعر يوسف ميخائيل.. فأقبلت عليه بنهم ولهفة أنهل من شعر الشعراء، وأحفظ للشعراء مدثر البوشي.. وعبد الله عبد الرحمن وغيرهم من ذلك الرعيل الطيب المجيد.. وأكاد أكون حفظت في تلك المرحلة كل القصائد التي وردت فيه، ثم عثرت على ديوان الشاعر المصري علي محمود.. المهندس.. فأقبلت عليه بنهم.. فقد وجدت فيه شعراً منفتحاً أكثر من التعابير والأوصاف، وحرية أكثر في المغازلة.. والتعبير.. ومنذ ذلك الحين تعلقت بالشعر.. وأنا في الثانية الوسطى.. ولد لعمي عبد المجيد جبورة من خالتي زينب حسن هلالي «المشهوره باسم كولا» ابنهما كمال.. فرحت به كثيراً وفكرت أن أهنئه- وكان في بورسودان- بشيء من الشعر- وقد كتبت عن سعة اطلاعه من اشتغاله بالقراءة.. ومكتبته التي استفدت منها كثيراً في مناسبات سابقة، فأخذت بيتين من إحدى القصائد.. ونسجت عليهما أربعة أبيات من عندي.. ولابد أن أبياتي الأربعة كانت ركيكة.. وربما لم تكن شعراً.. كما أقرأ اليوم لبعض الناشئة الذين يستجعلون النشر.. ولكن عمي عليه الرحمة.. رد علي رداً واعياً.. فقد شكرني كثيراً على محاولتي.. ولكنه أوصاني بالا استجعل كتابة الشعر.. بل أكثر من قراءته وحفظه، وأكثر من الاطلاع عموماً.. وعضد ذلك بارساله هدية هي عبارة عن خمسة كتب.. لطه حسين- وزكي مبارك- والرافعي.. وديوان لشوقي وآخر لحافظ إبراهيم .. والتزمت بالوصية.. وأقبلت على القراءة.. وفي نهم شديد.. وباكمال المدرسة الوسطى ببربر انتقلت إلى المرحلة الثانوية بمدرسة الأحفاد بأم درمان.. وكان سريري مجاوراً لسرير الأخ حسين بازرعة الذي كان يسبقني بعام.. وكان اشتغاله بالآداب بلا حدود.. كان ينفق كل ما يقع في يده من نقود على شراء الكتب والمجلات الأدبية.. مصرية.. ولبنانية.. «ويداوم على العشاء بالفول في نادي الهلال الرياضي».. وكان يتابع القضايا الأدبية مع أستاذنا أحمد عبد الله المغربي.. الذي كتبت عنه سابقاً.. رحمه الله- وحتى في الإجازات تتواصل بينهما الرسائل الأدبية.. شفا الله أخانا حسين بازرعة وعافاه.. وكان الأخ حسين بازرعه طالباً دمث الأخلاق.. رقيقاً رقة كلماته.. وسيماً.. أنيقاً.. ودوداً.. يطلعني على رسائله لأستاذنا المغربي، وردود الأستاذ عليه.. ويسمح لي بالقراءة والإطلاع على كتبه ومجلاته.. وبدأت أنشر بعض قصائدي.. وأنا في المرحلة الثانوية على صفحات الصحف منها.. النيل.. والصيحة.. وهما من الصحف الاستقلالية التي كانت لسان حال حزب الأمة، الذي ينادي باستقلال السودان وجلاء المستعمر.. وجريدة الأشقاء.. وهي من الصحف الاتحادية التي كانت تنادي بجلاء المستعمر والاتحاد مع جمهورية مصر.. وكان يشجعني على النشر وجود عمنا المرحوم- بإذن الله- حسن محجوب مصطفى رئيساً لتحرير «جريدة الأمة» الاستقلالية.. مما يسر لي التعرف على بعض المحررين.. على آدم.. ابن الخياط الصغير- كما كان يسمي نفسه- وقرشي محمد الحسن صاحب قصيدة «الفراش الحائر» المشهورة وصاحب برنامج «أدب المدائح»، الذي كان يضرب به المثل فيما بعد.. فيقولون.. «أدبني أدب المدائح».. وتعرفت على الأستاذ أحمد يوسف هاشم.. رئيس تحرير «السودان الجديد» الذي كان يلقب «أبو الصحف».. وكان عمي الشاعر أحمد سنجر عليه الرحمة يأخذني إلى «نادي الخريجين»، حيث أشاهد فطاحل الإتحاديين- الأزهري- يحيى الفضلى.. خضر حمد- مبارك زروق- صاحب ديوان «هتاف الجماهير» الذي جمع فيه قصائده الوطنية.. وقد عملت معه فيما بعد عندما عملت معلماً، وتدربت بمدرسة حي العرب.. وفي هذه الفترة تعرفت على بعض شعراء الأغنية، علي محمود التنقاري.. إسماعيل خورشيد.. عمنا إبراهيم العبادي، الذي كانت تربطني به بعض الصلات العائلية- التي كنت أجهلها- ومن الفنانين تعرفت على الأمين سليمان.. ورمضان حسن، أما كبار الفنانين.. فكنت أراهم في «سوق الموية» أو في الطرقات أو عند أحيائهم حفلات بدور السينما.. غير أن صلتي تجددت بابن بربر الفنان عبد العزيز داؤود.. الذي ظل يدعوني «ود المرحوم» وبالثانوية يدعونا في منزله.. بعض أيام الجمعة.. فتقوم الحاجة والدته باكرامنا والسؤال عن أمهاتنا «وحبوباتنا» ويدور الحديث معها وابنها عثمان حتى تخرج.. وانطلقت في هذا الجو.. أكتب الشعر.. وأعرضه على زملائي الذين يكتبون الشعر.. ومنهم الطالب النابغة «آنئذ» دفع الله الحاج يوسف «والقاضي والمحامي ووزيرالعدل- فيما بعد» والذي دارت بيني وبينه مساجلات شعرية تذكرها كلما التقينا.. والأخ كمال عمر الأمين العمرابي.. والأخ صلاح أحمد إبراهيم الذي جدد مفهومنا للشعر وأغراضه.. وأدخل علينا مفردات جديدة.. فقد كان واسع الإطلاع.. سابقاً جيله بكثير.