جلس صباح الخير بلحيته الدائرية على سياج كبري شمبات..في يده ورقة وقرطاس، بدأ مثل شاعر أو عاشق..بعد أن أكمل لوحه وضع القلم والورقة على حذائه البالي..التفت يميناً ويساراً..ردد الشهادة ثلاث مرات..ثم قفز إلى النهر..مضى إلى أدنى الماء ثم طفح..لم يكن يبذل أي قدر من المقاومة ..تجمع بعض المارة..جاءت سيارة النجدة على عجل. الضابط بعد أن فحص متعلقاته واستمع إلى شهود عيان..أخبر رئاسة الشرطة أن مواطناً انتحر.. بطاقته تقول اسمه صباح الخير محمد قسم الله..الضابط طالب بمده بقارب وعدد من رجال الشرطة المدربين لانتشال الجثمان. الخطوة الثانية للملازم طه كانت إخبار ذوي الغريق..هاتف المرحوم يمثل أفضل وسيلة..استخدم آخر رقم.. جاءه الرد « بابا جبت العجلة » ..طفل في نحو السابعة..لم يجد رجل الشرطة غير أن يغلق الخط في وجه الصغير.. بدأ مع رقم آخر.. قبل أن يتحدث فاجأه صوت غاضب « مافي عذر تاني يالقروش ويا افتح فيك بلاغ» ..أغلق الخط للمرة الثانية.. بدأ يفكر في وسيلة غير الهاتف الجوال.. عاد إلى المتعلقات ..ربما حملت الورقة البيضاء وصية المرحوم أو يسرت سبل الاتصال بأسرته. توسط الورقة عنوان «دعوني ارتاح»..كنت أعمل بالخليج منذ خمسة عشر عاماً.. نزلت أسفل البناية إلى حيث سيارتي..اعتقلتني الشرطة..أخبرتهم أنني مقيم بصورة شرعية..لم يكن أحد على استعداد للحوار.. مضت دورية الشرطة إلى مكان مررت به كثيراً..سجن الترحيل..أدركت وقتها أن الكفيل فعلها..هذاأسوأ سيناريو لخلافاتي مع أبو عبدالله.. دخلت إلى الحبس وعلى يدي قيد من حديد..استغربت.. الناس رغم بؤس حالها تبتسم في السجن ..بعضهم يستخدم هاتفاً جوال دخل إلى المبنى سراً ويطالب أصدقاءه بمدد سريع..آخر ينقل الخبر السيء لذويه في ما وراء البحر. أولى مصائبي كيف لى أن أخبر زوجتي..كيف أشرح الأمر لعمرو وهاشم أطفالي الصغار..من أين لى تدبير نفقات الحياة وكل مدخراتي المالية بين يدي أبوعبدالله.. فكرت في الاتصال بالقنصلية السودانية.. ضحك على رفاق السجن. عند المساء هتف عسكري باسمي ثلاثياً.. تباطأت قليلاً.. دفعني بيده الغليظة.. في مكتب الضابط وجدت زوجتي وأطفالي.. اكتشفت أنهم يشاركونني ذات السجن.. على المنضدة كان الضابط البدوي يتأمل جوازات سفرنا.. يتمعن في صورة زوجتي ثم يعود إلى الأصل..أنا عاجز أن أمنعه.. قيدي الثقيل يحد من حركتي.. لم أجد غير أن أنظر إلى الأرض.. صمت منذ تلك اللحظة.. وجدت في الصمت أقوى تعبير. عبرنا البحر.. فكوا القيد بعد أن دخلنا المياه الدولية.. زوجتي تسألني ولا أجد القدرة على الكلام.. أبنائي يبحثون عن تبرير فتهرب أعيني من ملاقاة أعينهم الحائرة.. فكرت بأن ألقي بنفسي في اليم.. ترددت..أردت أن أصل إلى الوطن.. ربما تنصرني حكومتي. عند التاسعة من صباح اليوم ذهبت إلى سفارة كفيلي.. بيدي عرض حال معنون إلى سعادة القنصل.. أردت أن أقابل القنصل.. رجل الشرطة يمنعني..رأيت رجل شرطة آخر يحمل بين يديه «سوط» ويركب على جواد.. جاءني إحساس أن كابوس السجن سيعود إليّ مرة أخرى.. خفت من العسكري. لم يكن من الممكن أن أعود إلى بيت الإيجار.. صاحب البيت في انتظار الأجرة.. طفلي عمرو يحلم بعجلة مثل التي كانت عنده في تلك البلاد ..زوجتي أخبرتني لا شيء بالمطبخ. ركبت المواصلات ..عندما طلب مني الكمساري واحد جنيه طلبت منه أن ينزلني لارتاح قليلاً في النهر.