ارتفعت بض الأصوات هنا وهناك تشكك في الطريقة التي واجهت بها القيادة العامة للقوات المسلحة الغزو الأجنبي لمنطقة هجليج الغنية بالنفط، ولا شك أن المناخ السياسي الماثل الآن في السودان يؤمن لأي مواطن حرية الرأي والتعبير للحد الذي أصبح فيه النقد بنوعية البناء والهدم هو الشغل الشاغل لبعضهم وأصبح بالبيان وللعيان «الكبير الجمل» كما يقول شيخ المثقفين السودانيين الإمام الصادق المهدي. هذا الواقع لم يزعجني اطلاقاً لأن كل حادب على مستقبل هذه البلاد عليه أن يتمسك بحرية الرأي والتعبير مع عضه بالنواجز على مبدأ إحترام الرأي الآخر، أما السلوك الحضاري في مواجهة إستغلال هذه الحرية والإساءة للآخرين والنيل من سمعتهم وشرفهم فليس بوئدها ولا قبرها ولا حتى تقييدها بإجراءات إدارية بل بكفالة وتيسير الإجراءات القانونية التي تؤمن للمتضررين منها في شرفهم أو سمعتهم أو مالهم أو عرضهم اللجوء إلى القضاء ومقاضاة المسؤولين عن ذلك الضرر مع رفع سقف التعويض المادي والأدبي بما يحد من الكيد السياسي وتصفية الحسابات الشخصية وعدم المبالاة واستعراض العضلات وظاهرة الوكالة في إشانة سمعة الآخرين ودائماً ما تكون بأجر. لكن من المؤسف أن تطال ظاهرة عدم المبالاة واستعراض العضلات وربما الوكالة المأجورة في إشانة سمعة الآخرين سمعة وأداء قوات بلادنا المسلحة من اشخاص لا تأهيل لهم يبرر تدخلهم في شؤون وهموم القوات المسلحة ولو بصورة عامة ودعونا من المسائل التي هي من صميم التكتيك والإستراتيجية العسكرية. في زمن غابر مضى وفي غمرة الشباب وحماسه وباسم مستعار دخلت أكاديمية العلوم العسكرية في كوبا بتوصية من جبهة التحرير الإرتيرية لدراسة علوم حرب العصابات مع تركيز ضروري على حرب المدن كما طلبت بذلك القيادة العسكرية لجبهة التحرير الارتيرية. واعتقد بأن هذا المؤهل النظري مع تجاربي العملية في ميدان القتال داخل صفوف جبهة التحرير الارتيرية ربما يؤهلني لحد ما لكتابة هذه الخواطر بلا زيادة ولا نقصان لكن بكل تأكيد لا أجد نفسي مؤهلاً للحديث عن اداء قوات بلادنا المسلحة إلا بتواضع حقيقي أمام قيادات بلادنا العسكرية. إن من أول وأهم المعلومات التي نهلتها في كوبا من معلمنا الاوكراني كما اشيع أن أي معركة مهما كانت اهميتها فإنها ليست نهائية إلا بعد استسلام القوات المعادية وإن الانسحاب من أي معركة مهما كانت اهميتها لا يشكل هزيمة للقوات المنسحبة بل في بعض الأحيان يعتبر انتصاراً لها مع حساب تكلفة الانسحاب وتكلفة المواجهة وأهمية الانسحاب من أجل اعادة التشكيل العسكري وكيفية إدارة العمليات اللاحقة. وحذرنا معلمنا الاوكراني الذي رمز لاسمه بالمعلم «اكس» بأن الدخول أو قبول المواجهة طوعاً أو فرضاً بدون حساب نتائجها مسبقاً هو عين الخطأ واستدرج وقال بأنه خطأ يجب أن تحاسب عليه القيادة. وفي محاضرة أخرى أتذكر حديث أحد المحاضرين ومفاده بأن على القادة المقاتلين أن يتجنبوا الوقوع ضحية لأي هجوم مفاجيء لأن التاكتيك المناسب في مثل هذه الحالة هو الإنسحاب والتحول من الدفاع للهجوم بعد إعادة تشكيل القوات ووضع التكتيك المناسب للهجوم. وفي فرصة لاحقة لم تتوفر لي مثلها مرة أخرى لأنهل من علم خبير عسكري مؤهل استمعت إلى تنوير قام به الفريق أول عصمت رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة فحواه التكتيك والإستراتيجية بحسب الوقائع على الأرض. وليس غرضي الآن تقييم ما استمعت إليه أو صاحبه لكني بينما كنت في تلك القاعة استمع للقائد عصمت سرحت عائداً إلى كوبا السبعينيات من القرن الماضي وتذكرت المعلم اكس وغيره. وخرجت آنذاك من القاعة مطمئناً على قوات بلادنا المسلحة لأنها في أيادي أمينة وتنعم بقادة نهلوا من العلوم العسكرية بما يؤهلهم للمناصب التي تولوها. وعند الهجوم على أم درمان بواسطة قوات المرحوم خليل إبراهيم كنت في داخلي أضحك وأنا إستمع للنقد الذي وجهه للقوات المسلحة المتمثل في أن وصول الدكتور خليل لأم درمان يقدح في فاعلية هذه القوات لأني كنت أعلم بأن القيادة العامة للقوات المسلحة كانت على علم مسبق بتحركات قوات المرحوم خليل منذ أن بدأ التجهيز لحملته وهو داخل دولة تشاد ومن بعد رصدته حتى دخوله لأم درمان وكان خيارها المدروس عسكرياً وسياسياً أن يتم القضاء عليه ميدانياً وهو متلبس بالجريمة بعد وصوله لأم درمان لأن الهجوم عليه في الصحراء يتطلب اللجوء للطيران الذي كان استعماله سيعرض البلاد إلى حملة دولية من المتربصين بالبلاد وبالفعل نجح التكتيك العسكري والسياسي لقادة القوات المسلحة. وما اشبه الليلة بالبارحة فيما يتعلق بالهجوم على هجليج. لا شك أن دخول قوات حكومة جنوب السودان المارقة لمنطقة هجليج هو عمل إنتحاري وساذج ويدل على أن القائمين على شؤون هذه الدولة لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالسياسة أو الشؤون العسكرية. وفي تقديري المتواضع جداً وبعد أن إنحني واطأطأ رأسي تقديرا لابطال القوات المسلحة أقول بأني قد إحتفلت بانتصارهم في هذه المعركة في يوم 13/4/2012م عندما وصلتني رسالة ألكترونية من أس أم سي «القامة» تقول بأن القوات المسلحة قد أحكمت سيطرتها على حدود ولايات دارفور وكردفان مع جنوب السودان، وفهمي لهذه الرسالة بكل بساطة يتمثل في أن القوات المسلحة تفادت وسوف تتفادى مستقبلاً أي مواجهة أو قتال داخل هذه المنطقة النفطية لأن الإستثمارات فيها تتعدى المليارات ومن ثم عملت على محاصرتها وضرب خطوط إمدادات العدو من خلفه وهذا في تقديري هو التكتيك العسكري والسياسي والإقتصادي الناجح الذي لا يقدره إلا القادة العظام.. ومن بعد علينا الإنتظار مهما طال لأنه لا خيار أمام العدو إلا الإستسلام ومن ثم يتحمل تبعات كل التخريب الذي طال منشآت النفط. أما الطابور الخامس الذي يريد أن ينال من قيادات قوات بلادنا المسلحة القادرة والحكيمة والتي لا تتعامل بردود الأفعال بل بالدراسة والحسابات العسكرية والسياسية الدقيقة فأقول لهم إنها بعيدة المنال وقائدها الأعلى يعرف قدر رجاله ومن يتعامل معهم ومن بينهم الرائد الذي لايكذب أهله، صديقه الصدوق الذي قلدته محكمة الجنايات الدولية أعظم وسام شرف في أعين السودان والكمده بالرمده. *محام وخبير قانوني وناشط سياسي