سبحان الله الذي كتب وقدر أن تكون «هجليج» مدخلاً لمرحلة جديدة من مراحل البناء الحضاري والوطني، سبحان الله الذي قضى وجعل «هجليج» وخزة نصحو بها من غفلة، بل نقطة فارقة بين عهد مضطرب عشناه بعد نيفاشا وانفصال الجنوب، إلى عهد جديد وضيء تتضح فيه الرؤية ويعتدل المسير. إن «هجليج» لم تكن في سابق عهدها سوى غابة موحشة بعيدة عن العمران والبلدان.. نائية في ناحية قصية جنوبي جنوب كردفان، حتى جاءت ثورة البترول فغدا حقل «هجليج» من الحقول الرئيسية بالبلاد وسارت بذكرها الركبان، ثم ساق الله أقداره الغلاّبة فتسعى الحركة الشعبية إلى حتفها بظلفها، فترتكب حماقة «هجليج» وما درت الحركة وما درينا أن تكون القشة التي قصمت ظهر البعير وأن تكون الشرارة التي تحرق موقدها وأن تكون الوثبة التي ليست بعدها قعود إن شاء الله وتكون اليقظة التي ليس بعدها خمول بإذن الله، بل تكون صفحة مضيئة في فصل جديد من كتاب تاريخ السودان المعاصر المحشود والمرفود بطاقات أهل السودان جميعاً الذين اصطفوا للفداء والوفاء في مشهد وطني ربما لم يشهده تأريخ السودان من قريب لا يقاربه أو يشابهه إلا مشهد النفير والثوابت الذي حدث في فجر الإنقاذ وعهدها الأول وقد عكفت حينذاك على تفجير طاقات أهل السودان وتحرير إرادتهم من أسر الكبراء والطوائف وهيمنة الغرب وغطرسة المستعمرين الجدد وتم توطين المشروع الوطني السوداني فقامت فينا وبنا ملاحم أشبه ببدر وأحد والقادسية، وسارت بنا وفينا قوافل الخير والزاد والدعوة والرشاد ومضى الأطهار مسرعين إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ما أشبه الليلة بالبارحة، وهل يصلح آخر الإنقاذ الوطني إلا بما صلح به أوله؟ إن الراصد لحالة الوطن قبل «هجليج» يلحظ حالة الوهن والتفكك الذي كنا نعيشه، والمناخ غير المواتي للإنتاج والعطاء الذي كان سائداً، العاملون بالدولة كانوا مشغولين عبر نقاباتهم بإحصاء متأخراتهم واستحقاقاتهم التي تراكمت على الحكومة المركزية وحكومات الولايات، وكانوا ممسكين بتلابيب الحكومة للوفاء بالمتأخرات والنظر في زيادة الأجور، أما المعارضة السياسية فكانت تمني نفسها بانتقال عدوى الربيع العربي للسودان وقد توافرت ظروفه ودواعيه لاقتلاع النظام الحاكم، فالمواطن يعاني من غلاء الأسعار وندرة بعض السلع المهمة وشائعات فساد ذمم بعض كبار المسؤولين تستشري في المجتمع كالنار في الهشيم، وتململ بعض المجاهدين وشباب النظام الحاكم بدأ يفوح من خلال المذكرات الإصلاحية والملاحظات الناقدة وعدم الرضا بواقع الأمور.. الخ ثم ماذا؟.. ثم يقدر الله وحده أن يختار لنا الزمان والمكان والرمزية لاندلاع أكبر ثورة ربيع عربي على الطريقة السودانية، لا لتقتلع النظام ولكن لتهبه عمراً جديداً ومشروعية وطنية أكبر من تلك التي نالها بالانتخابات، بل وأكثر بركة بهذه الروح الإيمانية العالية والنصرة الطوعية للوطن ومقدراته، فيا سبحان الله!! لك يا ربنا الأمر من قبل ومن بعد، فقد أنقذت الإنقاذ بمخرج صدق لم يقدر أحد زمانه ومكانه، وجعلت من «هجليج» يا ربنا رمزية جعلت كل الأمة السودانية وقطاعات الشعب كافة تتناسى قضاياها الخاصة وموطيء أقدامها، فتداعى كالسيل العارم نصرة لله والوطن.. فالمجاهدون وفصائل النظام الحية قذفت بمذكرات النقد والإصلاح وتواثبت لتكتب بنفسها إستراتيجية وبرامج السودان الجديد الذي تريد!! أما العاملون بالدولة لم يتركوا المطالبة بالاستحقاقات فحسب ولكنهم عكفوا يوفرون ميزانية النفير المبارك مما تبقى من كشوفات المرتبات ومعهم الشعب السوداني الأبي الذي ابتلع «مرارة» الغلاء في الأسواق ولكنه لم يستطع أن يبتلع «مرارة» الذل والإهانة للوطن وسيادته، أما أحزاب المعارضة السياسية فقد اجتاز معظمها ورقة امتحان الوطنية في «هجليج» ولم يسقط إلا القليل الذي لا يؤبه به. إن ثمن التضحية والفداء في «هجليج» كان «غالياً» ولكنه «رابحاً» في ثمرته ومخرجاته من حيث لا نجد وجهاً للمقارنة بما يسود السودان اليوم من روح متوثبة ومناخ مواتٍ لتحرير كافة أجزاء السودان بقوة السلاح وزيادة الإنتاج وتوفير الخدمات لهذه الأمة الوطنية وتجديد المواثيق والرؤى السياسية للمحافظة على التلاحم الوطني الذي تم، واستثمار النجاحات الدبلوماسية وإحكام السيطرة وحسن القيادة ثم إحناء الرؤوس لله شكراً وتواضعاً فذلك دأب المصلين المخلصين.