رجل طويل فارع.. وخط الشيب رأسه.. تلمح بقايا وسامة هدمتها النظرات المجنونة.. شعره الكث غير المرتب يشير إلى قصة طويلة تسببت في هيئته الرثة وحركاته التي تبدو آية في الغرابة إن لم نقل الجنون. كان الرجل يطارد شيئاً ما.. لا نراه.. وحتماً هو لا يراه.. شيء وهمي يطارده هنا وهناك ثم يقذفه بما يجد ثم يدوسه بقدمه.. ويعاود ملاحقته على الجدران ينظر إلى أعلى كأنما الشيء المزعوم حلق إلى أعلى.. ثم يعاود النظر إلى الأرض ويظل يطارد ذلك الشيء الذي لا نراه وحتماً هو لا يراه. قلت ماذا يفعل الرجل؟ قال محدثي: أبداً الناس لا يحفلون بالأشياء الصغيرة.. يتجاهلونها.. لا يقيمون لها وزناً حتى تتفاقم وتصبح كبيرة.. هذه حكاية هذا المواطن مع ناموسة. نعم.. نعم ناموسة.. فقد شاركت هذا المواطن حجرته ذات ليلة.. حاصرته هذه الناموسة الصغيرة التافهة.. أضجرته غاية الضجر أرقت ليلته بطنينها الدؤوب الرتيب.. سهر الليل جراء لدغاتها المحكمة.. يغطي وجهه فتتحول إلى أذنيه.. يغطيها فتتحول إلى أقدامه.. تطن وتلهبه (بقرصاتها). حاول هذا المواطن جاهداً أن يتخلص من هذه الناموسة.. اضطر إلى النهوض من نوم لذيذ ليطاردها.. حاول قبضها بإطباق كفيه عليها.. لكنها تفلت.. طاردها بصحيفة طواها وأخذ يلاحقها هنا وهناك ولكنها تهرب.. أخيراً استقرت التافهة على المرآه حمل الحذاء وأخذ يتقدم ببط ثم نشن عليها تماماً وقذف بالحذاء فتسمع طاخ.. كشو.. كشو تكسرت المرآة.. لكن لا يهم.. المهم أنها كانت الضربة القاضية التي أودت بالناموسة إلى الجحيم. حمد الله.. صحيح ضحى بالمرآة ولكنه سيذهب إلى سريره وينام نوماً هادئاً عميقاً دون ضجر لا طنين لا لدغات.. ما إن اضجع على سريره حتى عادت الناموسة لمناوشاتها.. إذن لم تمت عادت تطن في إلحاح عجيب.. نهض هذه المرة أكثر حماساً فقد طار النوم طيراناً.. حاول مطاردتها هنا وهناك فلم يفلح. أخيراً قرر أن يعود إلى السرير ويواصل رقاده وليسكت ساكت ويدعها حتى تستقر على منطقة في جسده فيضربها ضربة قاتلة.. استقرت على جبهته فصفع جبهته صفعة قوية.. ولكنه اكتشف أنه اصطاد جبهته لا الناموسة.. طارت وطنت أخيراً استقرت على خده فضربها بكفه بقوة وقال في نفسه: رغم أن الكف حار لكنه تخلص من الناموسة اللعينة.. عاود الرقاد على زعم أنه تخلص منها هنيهة ثم عاودت الطنين.. فأخذ يطاردها وهو يصرخ: بت الكلب.. بت الكلب.. علا صياحه.. صحا الجيران أخذوا يستمعون فاندهشوا غاية الاندهاش.. وبعد حين استمعوا إليه يبكي بحرقة. والآن ها هو يهيم في الشوارع رث الثياب يطارد شيئا وهمياً والسبب مجرد ناموسة.. صغيرة جداً تافهة جداً.