قررت الحاجة سكينة العودة إلى المترار .. قرار تم بهدوء، لم تسأل أحدًا، لم تطلب شيئاً من أحد.. فؤجي الابناء والبنات والحفيدات، ان الست الكبيرة قد وضعت قطنها في قفتها القديمة الأثيرة واخرجت مترارها القديم، وبدأت منذ الصباح الباكر في غزل ونتف القطن الأبيض ناصع البياض.. و بدأت خيوطها تتضح شيئاً فشيئاً وتنمو شيئاً فشيئاً.! لم يعلق أحد..! سكت الجميع وأعربوا عن رضائهم بالفكرة والعودة إلى ذلك الماضي الجميل، ولكل واحد منهم ذكريات ومنافع مع المترار وخيوط الغزل.. شئ من الحيوية دب في جسد الست سكينه.. وبدأت تستعيد مهارتها مع المترار والغزل..الحفيدات اقتربن شيئاً فشيئاً وهن يراقبن في سعادة طريقة الجد في تحويل نُتَفْ القطن البيضاء إلى خيوط، تتزايد شيئاً فشيئاً، كانت الجد تضع المترار على فخذها ثم تحركة عدة حركات ثم ترفعه إلى الأعلى فيدور عدة دورات حيث يلتف القطن حول المترار وتتجمع الخيوط القطنية.. ثم سرعان ما بدأت الحفيدات يشاركن الحبوبة المترار بهمةٍ ونشاطٍ وتعالت ضحكاتهن وهن يتعلمن من الحبوبة طريقة الغزل.. وكيف يحوِّلن نتف القطن إلى خيوط.. ثم ارتفع صوت الحفيدات فهذه تريد ان تنسج من حصاد القطن صديرية، وتلك طاقية وأخرى تريدها فردة..! بنات سكينة كن يتحدثن هامسات: كيف تسنى لامهن ان تذهب إلى السوق وتشتري احتياجاتها من القطن، وكيف حصلت على قطن نظيف جديد لم يحتاج إلى معالجة اخرى.. وكيف دبرت ذلك الأمر في هدوء..! وتصاعدت الضحكات عالية حينما دخلت اختها الحاجة فاطمة وهي تحمل أدوات غزلها، واتضح ان سكينة واختها في فاطمة قد دبرن أمورهن معاً، وتم التخطيط بهدوء لكي يعود الغزل من جديد.. في طفولة البنات كان المترار والقطن المنتوف الذي يتحول إلى خيوط سبباً في جلب السعادة في البيت فما أن تنتهي فاطمة خالتهم وسكينة امهم حتى يأتي التاجر عباس في وقت معلوم فيسعد بقدومه الجميع، يخرج من مخلايته ميزانه، ثم يبدأ في وزن خيوط القطن، وبعد الوزن يخرج مبلغاً من المال يسلمه للحاجة سكينة.. ومع المال الذي تسلمته الحاجة سكينة، يبدأ اليوم بوجه آخر جميل حيث تقبض البنات والأولاد بعضاً من ذاك المال، ويهرعوا إلى الدكان المجاور ويشتروا ما لذ وطاب من حلوى وألعاب .. وأحيانا يذهبن ببضاعتهن إلى السوق ومعهن الأولاد، حيث يبعن بضاعتهن إلى تجار معروفين من الاقباط هناك في سوق شندي و يعودون بالسكر والشاي والفواكه والحلوى، فقد كان مصدر دخل جيد وقتها.. ومع مرور الوقت أصبح ذلك من الذكريات.. ولكن يبدو ان قسوة الحياة هذه الايام وشظف العيش، وقلة المال، دفعت بسكينة وفاطمة إلى العودة مجددًا إلى الكسب القديم.. البنات تشجعن مع عودة الأم والخالة إلى الغزل.. وتذكرَّن الايام الخوالي حيث كان حوش البيت يعج بالدجاج والغنم والنعاج وإن أبراج الحَمَام عامرة بالحمام.. وان أحواض النجيلة وبعض الخضروات تكسب الحوش خضرةً ونضارًا.. أين كل ذلك الخير.. فقد كان البيض متوفرا ولحمة «العِّتاْن» والديوك متوفرة وبعض الفواكة متوفرة والحليب متوفرًا، و تحولت الحيشان إلى بلاط واسمنت وسيراميك.. وحضارة زائفة لا يستفيد منها أحد..! ذكرت بعضاً مما كتبته الآن في ختام دورة تدريبية لمتطوعات من وزارة الشباب والرياضة عنوانها الدورة التدريبية المؤسسية في تحليل الاوضاع بالمشاركة من منظور النوع الاجتماعي لتنمية المرأة الريفية..... وقلت إن مجتمعاتنا في خارج العاصمة وعلى اطرافها كانت تساهم بقسط وافر في حل ضائقة الفقر والعوز، وان الاسر كانت منتجة بطبيعتها ولم تنتظر إذناً من جهة لكي تعلمها كيف تنتج، فقد كانت البيوت بطبيعتها منتجة، وكان الأكل والشرب يتم معظمه داخل البيت دون اللجوء إلى جهةٍ اخرى، فكثيرون يقتسمون ما يذبحون من بهائم، أو يذبحون مما لديهم من ديوك ودجاج وحمام و«عتان» وحملان، ومعظم الخضار واللبن متوفر في البيوت وكذلك.. البيوت في المدن والقري اصبحت الآن نظيفة أنيقة لا يجرى في حوشها المبلط بالبلاط والرخام والسيراميك الدجاج ولا البط ولا الغنم، ولا يزرع فيها الجرجير والطماطم.. أذكر ان حوش بيتنا في شندي كانت به أشجار البرتقال والليمون والجوافة، والعنب، وعندما اشتهرت اغنية التاج مكي( اسأل االعنبه الراميه فوق بيتنا) كنا نتباهي بأننا نحن اصحاب تلك العنبة التي تم قطعها للأسف من الحوش عشان خاطر حفلة زواج أخونا الأكبر أحمد- رحمه الله- في مايو1969.. ولكن استمر انفعالنا مع اغنية العنبة حتى بعد قطع العنبة في بيتنا..ثم جاءت أزمة إنفلونزا الطيور لتلغى المشروعات المنزلية!! حيث قُتِل الدجاج وانتهى دور البيت في تأمين الغذاء.. الآن هناك عودة خجولة إلى تلك الايام وبدأنا نسمع صوت الدِّجاج والدِّيوك بل هناك بعض أصحاب الحيشان الواسعة في أطراف العاصمة زرعوا الخضروات واعادوا الأغنام إلى الحظائر وكذلك الدجاج وأبراج الحمام..! نجتهد كثيرًا في البحث عن سبل كسب العيش، وتتعدد الاطروحات والأفكار والمشروعات لكي تتكامل حلقات الاسر المنتجة في أرجاء السودان الواسع..ونجد ان الأمر لا يحتاج إلى كبير اجتهاد وكثير تنظير..الفقراء ازداد عددهم ويزداد كل يومٍ، حيث اصبح الموظفون من الفقراء، وكذلك الدستوريون قريباً جدًا.. دعونا نجتهد في ايجاد مصادر رزق قريبة من ارجلنا ولا نغرق في بحر الاحلام.. فالناس صار همهم ايجاد لقمة العيش وقوت اليوم.. ومن ملك قوت يومه بات آمنا في سربه.. وعليكم بالاكثار من قراءة سورة قر يش فإن علامات الرزق والأمن لا تخطئهما عينٌ.