بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البندر و الوادي (الجزء الثاني من المطاليق)
نشر في السودان اليوم يوم 30 - 09 - 2011


ثلاثية البلاد الكبيرة:
الوادي والبندر..
(الجزء الثاني)
رواية
في شأن الوادي والحب والأسلاف
أحمد ضحية
I
على قيف الشاطيء الوحيد, المتوحد في عزلته المجيدة, كان "جقندي" لا يزال مستلق يتقلب ذات اليمين وذات الشمال, كأنه يقضي ما تبقى من حياته بتقليب نفسه على جمر الذكرى الحارق. وعندما يلامس طشاش ماء النّهر جسمه النحيل, يرتجف لبرهة تكفي لإستعادة حياته مع "سوميت" والمشردين وجلساتهم في الكهف السِّرِّي لجبل "كارناسي" المهيب, فتتخلل خياشيمه المجهدة رائحة "سوميت" الدافئة, وهي تجلس على ركبتيها في قلب الكهف تشعل نارا صغيرة.
الآن فقط ينتبه لرائحتها ودفئها. علمها الكثير من الأشياء. حدثها عن "العوالم السبعة".. الدمار الأول.. و"كارناسي" الشاب العاشق اليانع الجميل, الذي قتله "الخازوق" بسم أبو الدرق القاتل, فأنتقلت روحه لتسكن الجبل وتحمل إسمه.. عرفت منه حدود النهر, ومن أين ينبع, ولماذا القبلي بهذه القسوّة والجبروت.. يلسع وجوه الناس وأقفيتهم, بذرات التراب الساخنة, وكم هي سموم نيران الغيرة, التي نهشت وجدان "الخازوق".. وكان وجهها يستحيل إلى شديد السمرة, كالأرض القردود, فينتبه للمرّة الأولى أيضا لتلك الوردة الحمراء المرشوقة بأناقة, في جديلتها الكبيرة. تحدثا عن الأزهار والورود السامة, التي يستخرج منهاصيادي دار الريح السُّم..
"يعالجونه بطريقة معينة, ويغمسون فيه رأس الكوكاب أو النشاب أو الحربة.."...
"لكن عندما يصطادون فريسة ألا يكون لحمها مسموما؟!"
"النار.. النار تعالج كل شيء"
كانت تعيد على مسامعه كل ما يقوله, كأنها تقرأ أمامها على لوح محفوظ, وجقندي الذي تتأرجح أفكاره الآن, منحدرة من ينابيع التاريخ العكرة, دون وعي يطهره النسيان, يتذكر أدق تفاصيل حياتهم المشتركة.. فتتأرجح هي الأخرى على مهل, فيبدو كل شيء حوله مهتزاً: الشجيرات على الضفة الأخرى من النهر.. المراكب الراسية على شفة النهر.. نباتات عشبّة معونّة النيل الكسولة.. عصفور "ودأبرق" وعشيقاته "المشاطات وقدوم صفيرة", وكل زرازير وزرزورات الحيشان الغارِّقة في إهتزازات الصّمت.. حتى ضوء الشمس الكابي, في آخر منعطفات الأفق خلف كارناسي, وهو يتسحب خلف غمامة عابرة, مهتزّة, سرعان ما ستتبدد وتفنى هي الأخرى.. وإلى الأبد, عندما ينفتق رتق السماء إلى قسمين, ويبدأ المطر في الهطول بغزارة..
كان المطر يشتد أكثر.. يشتد شيئا فشيئا...
ترك جقندي الجميع وخرج من الكهف وحده.. تأمل بندر الوادي المحترق في أسىً عميق.. تأمل الغيوم الكثيفة خلف خيوط المطر المنهمر. التي بدت كستار كثيف.. غطى الماء كاحليه .. شرب من ماء المطر حتى إرتوى.. خلع جلبابه .. ترك المطر يغسل جسمه العارِّي.. وصل الماء ركبتيه.. شعر بجدر الدور المحترقة تتهدم مع صواعق "البرق العبادي".. أخذ يتنفس بإنتظام وقلبه مفتوح على المطر.. غطى الماء صدره.. تهدّم قصر السلطان.. تهدّمت كل بيوت الوادي.. وبدأت الأشجار المهددة بالإقتلاع من الجذور تهتز بشدة.. أخذت أصوات الأهالي المرتاعين, تختلط بأصوات بهائمهم وهدير السيل المنحدر من أعلا "جبل كارناسي", وتمتزج في أصوات الطيور الهاربة من الأشجار, التي أخذت تتلاعب بها الرِّيح.. طارت بعيدا حاملة معها حفيف أوراق الشجر.. ندى الفجر.. وشمس صباحات الوادي الباكرة, ورائحة النباتات البرِّية وحتى الدعاش والغيمات العابرة, ورائحة الجروح المعطرة بالمخاوف والأسى الأبدي..
لملمت كل شيء وأطلقته في صرخة واحدة إخترقت حجب الفضاء البعيد, لتلامس كرسي الروح العظيمة وهو مستوٍ في مهابة, يراقب أحوال "عياله الضالين والمغضوب عليهم".. توحدت الصرخة في صرخات الأهالي الحادة كصرخة طفل لحظة الولادة.. طفّت الأشجار التي إقتلعها المطر والسيل من جذورها, وأصبح الوادي كله طافيا في الطوفان.. أصبح إمتدادا للنهر والبحر الملوّن.. غطى الماء عنق جقندي.. رأسه.. ومن أعماق النهر سبحت قطع الشك. وضعته على ظهرها, وسبحت به بعيدا إلى مدن لا يهددها الفناء..
كيف بدأت الحكاية؟!
كان جقندي قد جمع عددا من الأهالي بمساعدة من تبقوا أحياء من المشردين, ومضى قاصدا بهم المخابيء السرِّية أعلا كارناسي. إكتظت كهوف كارناسي بالأهالي والمشردون الذين تبعوه, ولاذ الجميع بالصمت المطبق. وضع الشايب جقندي الصندوق الأبنوسي الموروث من جده الجنزير التقيل على الأرض.. وضع "قربة المريسة" من على كتفه.. وتمدد على الأرض القردود. أغمض عينيه وحاول إسترداد لهاثه من الهواء, الذي أخذ يتموج أمامه. كان متعبا ومنهكا لأقصى حد. تحسس بنظره أرجاء الكهف المكتظ.. تتراءى له الآن بوضوح كل الأقنعة, التي تغلف الوادي وهي تسقط واحدة تلو الأخرى, فيجرح سقوطها الصّمت الحزين..
لعشرات السنوات ظل الوادي "متقنعا". يعيش خلف هذه الأقنعة مخاوفه الخاصة. هواجسه وظنّونه ورعبه المزمن. كانت كل ظلال القتلى والمغتصبات والمغدورين, تخرج من سراب الحياة: لاهثة ظمأى يحرقها جمر إنتظار القصاص. ثنى جقندي ركبتيه شعر بها منملة, مخدرة. فردها. ثناها.. فردها.. وأتكأ على مرفقه الأيسر, وهو يتناول من ود التويم الإزميل.. ومضت يده اليمنى تحفر في جدار الكهف, يحاول تدوين آخر الوقائع والأحداث ونبوءات النهايات الوشيكة, فيما مضى ود التويم يحاول فتح كوة في جدار الكهف, لربطه بسلسلة الكهوف الأخرى أعلا جبل كارناسي.
إستوى جقندي على الأرض القردود, محاصرا بالصمت الذي تمدد ليلف كل شيء داخل شرنقته الكئيبة. الصمت الذي كان يتبدد بصورة متقطعة تحت ضربات الإزميل على الجدار الصلد. كان جقندي يسعى جاهدا في فتح ثُغرّة في ذاكرة الوادي.. الأهالي.. المطاليق.. الشجر.. الطّير والمطر وريح القبلي. بدى له لحظتها أن كل شيء يفكر على النحو نفسه, الفرق فقط – ربما – في إختلاف الشّكل, لكن جوهر أفكارهم كان واحدا. حاول ترتيب ذاكرته, وجاحدا نعمة النسيان مضى أقصى تلافيف الوعي, حيث تكمن التفاصيل الخفيّة, منزوية بعيدا بقلق شقي في قاع الذاكرة, تراوغ الأسئلة السِّرية المسكوت عنها وغير المفكر فيها.. الأسئلة التي يطرحها الإزميل بضرباته المنتظمة, التي تشتد حينا وتنطفيء حينا آخر, مدفونة في الصّمت, مفسحة للرماد والغبار الذي يخلفه الطرق دائرة غير مرئية, يقتفي في تؤدة أثرها الحراري.
توقف عن الطرق عندما تناهى إلى سمعه صوت "أم كيكي" من بعيد, يعزف مزيجا من أغنيات عن "طير الرّهو" والعنقاء وسواقي الوادي والعصافير المهاجرة, من بلدات بعيدة إلى بنادر لا تعرف الشمس.. فقط العتمة ما يغلفها , كرّحم كبير يضم جنّين غير مكتمل النمو.. لفظ أنفاسه في منتصف المسافة..
جقندي الآن يواجه سؤال عزلته الداخلية, ليكتشف في عزلة الوادي العامة آخيرا أن ليس ثمة ما يميزه – كما ظل يعتقد دوما- ليستحق عليه الإحتفاء, فغّفى كالميت لتخترق أحلامه جدار العزلة.. قشرّة الصّمت الذي لم ينجح الإزميل في ثقبه..
"ليس ثمّة شيء خلف الجدار سوى المتاهة!"
قال ود التويم, تملى جقندي في وجهه النظر, وخياله يبحر في متاهة الوادي.. الشجر.. الطير.. الأهالي وريح القبلي السموم شقيق الصحراء.. ريح القبلي الذي يجري في عروقه مجرى الدّم.. صوت "أم كيكي" التي تتلوى على زراع راعٍ متعب موبوء بالحنين, يملأ فراغات الحلم, فتتردد أصداؤه بين جدران الكهف, دفقة من بوح كارناسي الشاب العاشق لحبيبته "القندول".. دفقة من بوح سوميت.. بوح قطع الشك وكل العشاق والعاشقات الذين تمر ظلالهم الآن لتتخلل كل شيء: الإزاميل.. الجدار.. عشبّة معونة النِّيل وهي تتهادى على سطح الماء المعكر بالطمي ونباتات المستنقعات المتطفلة.. معزوفات أم كيكي المدفونة في رمل الوادي وجذور القمبيل, تخرج إلى السطح. تبحر في النّهر. تنادي صيادين السمك والمراكبية المسطولين عند الفجر. تتهادى على الماء كمراكبهم وتستسلم لأحضان عاشقها الموج, وهو يقذف بعشبّة المعونة بعيدا إلى رمل الشاطيء, ليختفي خلفها عاشميق وست البنات إلى الأبد.
وتنقذف العشبة بعيدا على رمل الشاطيء, تعيدها أنغام "أم كيكي" إلى مستقرها الأخير: الرّحم الذي خرجت منه لتسمد الأرض, وتنمو في ثمار القمبيل, وتعطي "القضيم" لونه الأحمر القان.. لون قلب كارناسي النازف.. تنكسر "أم كيكي" على زراع الراعي, إثر ضرباته القوِّية على الوتر, وتتفجر كفقاعات تنتشر في الفضاء الفسيح, يستنشقه الأهالي المحاصرين بالمياه في الكهف أعلا كارناسي, فيستبد بهم الحنين والشجن, ويظل الجدار صلدا دون كوّة.. دون ثُغرّة.. دون تاريخ.. دون ذاكرة...
على إيقاعات "أم كيكي الحزينة", أثث "بندر الوادي" حضوره الطاغ في وادي الذهب.. في البلاد الكبيرة.. وعلى إيقاعاتها إستقبل الدمار الأول.. و.. والثالث وهاهو يشرع الآن نافذة أخرى لدمار وشيك, دون أن تعلن "أم كيكي" عن أسرار الخراب الدائري المستمر كحلقة شريرة, في مجرى الزمن, تنطوي على كوابيس الوادي المرعبة.
إذن عندما صعد المشردون والأهالي خلف جقندي قمة كارناسي, كان كل شيء في الوادي بائس. رَّث. ينطوي على كوابيسه الذاتية المرعبة, فقد فقد كل شيء طراوته ونداوته على نحو مباغت, وأصبح فزعا من أن تبعث الحياة في هذا الفضاء الكئيب, أن يتخلق من جديد وتنمو فيه وتعيش أوبئة الكوليرا, الملاريا, والجدري..
وضع جقندي الإزميل على الأرض الصخرية. فتح الصندوق الأبنوسي العتيق. سحب مخطوطا من جلد الماعز تم حفظه منذ عشرات السنوات بطريقة مجهولة, وأخذ يقرأ الرموز التي خطت عليه.. ثمة شيء مفزع يصعب تصوره.. تآكل تام يجعل كل الموانع في ذاكرته تتهاوى, كطوابي النّهر القديمة.. يهيمن عليه يقين بأن كل ما كان يوما هينا قريبا يصبح الآن صعبا بعيد المنال.. كانت الحقائق تهرب من بين الرموز, مفسحة لعشرات الأساطير الصغّيرة والكبيرّة في عالم ينمحي من الوجود.. فينمحي من الوادي الذي لم يكن يوما مهيئا كفاية, كبندر للبلاد الكبيرة ولذلك بدأ سلاطينه على الدوام, كالذين يسرقون البكارات خلسة من الفتيات المسكونات بالطفولة والخوف والخيبات.. يسرقون حتى دمعات اليتامى ويحاصرون الوادي بجبروت الصّمت والعزلة والحروبات الخفيّة والمعلنة, التي لا تنتهي سوى بالخسارات العظيمة.
منذ أصبح الوادي وطنا "للمطاليق" شذاذ الآفاق ومعتقلات الكهوف والمنبوذين.. منذها يهرب من مواجهة ذاته بسؤاتها, فغرِّق النّاس في الخوف من الكلام.. الخوف من القول والصراخ بصوت جهير وعنيد ضد المظالم.. ضد إنسداد الأفق وإنهيار الأحلام.. ضد الحماقات والجرائم في دار الريح..
منذها والوادي يستحيل شيئا فشيئا إلى مكان موحش, مبتذل وكئيب تتعطل فيه المواهب الطبيعية والحواس.. مكان لا يصلح سوى للنحيب, فقد إمتلأ بالغربان وغادرته الحياة.. فبدى شاردا في شمسه الغاربة, المتهاوِّية.. الهاربة.. معزولا على شاطيء النهر المهجور, وعشبة معونة النيل تغزل في موجه, آخر رسائلها للمراكب التي لن تعود إلى مرافيئها.. كان كل شيء يعلن بداية النهاية الوشيكة, لأطول تاريخ من الأحقاد والضغائن والعداوات والإحن الأنانية والإستعلاء والتهميش وقلة الذوق والأدب.. كل شيء تم إعداده بدقة: مخلوقات دمار العالم.. العزلة.. النّار.. الليل.. المطر والسيل.. فأنهارت في البدء كل الأبواب المغلقة تحت وطء زعر الأهالي.. إنهار قصر السلطان بكامله.. كان كل شيء قد أختزل في برق العبادي الخاطف بصواعقه الرهيبة, التي أحرقت كل شيء, ليرى الأهالي أنفسهم للمرّة الأولى: نساءَ ورجالاً.. أطفالا وشيوخاً.. كانوا جميعا عُراة "يتدافرون" في أمواج الزحام القاصدة الساحة التي تتوسط بندر الوادي, بينما مخلوقات دمار العالم تتناهشهم..
لحظتها صعد من أعماق التاريخ السحيق, إلى سطح حياتهم في رمقها الأخير. إحساسهم للمرّة الأولى بالهشاشة, على أنقاض الكبرياء الموهوم والإستعلاء الزائف.. تحرروا بموتهم من عقدة الذنب الخفيّة.. الدفينة التي لم تخذهم يوما...
إستمر ود التويم في محاولة فتح كوّة في الجدار, كان كالمغمّى عليه في غيبوبة التاريخ.. غيبوبة الجغرافيا.. خارج الزّمن.. إنزلق الإزميل على سطح الجدار, مثلما أنزلق هو في غفوته, حيث لا مسارب للضوء.. فقط الغبّار والذكريات والحنين.. تساءل من بين أحلامه الوسنانة: (هل يتوجب الآن حدوث الدمار الرابع.. تمزيق التاريخ المشترك والجغرافيا الأم.. تبديد الأقنعة والأساطير, كيما يتمكن الناجون من الحياة بسلام بعيدا عن إلحاقهم الأذى ببعضهم البعض, كما ظلو يفعلون دائما دون مبرر مقبول!..)...
كيف بدات الحكاية إذن؟!
بندر الوادي ظل طوال تاريخه يتصور دار الريح والصعيد, على النحو الذي "يريح ضميره" ليبرر غاراته على القرّى و"الفرقان والحلالات", فأهالي دار الريح والصعيد بنظره ليس ثمة ما يجمع بينهم ويماسكهم في كيان واحد قوي, فضلا عن تدنيهم العرقي والثقافي والعقدي, ولذلك عمد إلى ضرب ستار كثيف حول حياتهم, مكنّه من إستنزاف ثرواتهم ومواردهم, وبينما كان هو يزدهر, كان الصعيد ودار الريح يغرقان في ظلام كثيف من القهر والفقر والجهل والمرض والحروب الدائرية كحلقة جهنمية لا تنتهي.. فهذه سنة الكوليرا وحرب سهل القضيم, وتلك سنة الملاريا وغارات وادي القمبيل, وبينهما سنة الجدري ومعارك الحرازة أم قد.. هكذا كانت الحروبات والأمراض المنقرضة تاريخيا, تنهش أجساد أهالي الصعيد ودار الريح ودارصباح البعيدة الفقراء المتعبين..
لم يحاول البندر إذن تطوير فهم نبيل, يساعد على إزدهار الصعيد ودار الريح, بجعل أهاليهما شركاءً في هذه الأرض الواسعة وليسوا عبيدا عليها, ما جعل الأصوات التي كانت خافتة تتعالى شيئا فشيئا طلبا للتغيير وتقرير المصير.
"دار الريح في طريقها للإنفصال"
قال ود التويم.. رفع جقندي بصره إليه وقال بصوت بطيء لكنه واضح :
"كيف يمكن للسلطان والمطاليق أن يرغبوا في بقاء دار الريح جزء من البلاد الكبيرة, في الوقت الذي ينظرون فيه إلى أهلها "كدون" ذوي عقائد وسحنات مشبوهة, ولا تجري في عروقهم دماء مقدسة أو نبيلة كالدماء التي تجري في عروق أهل دارصباح.. الأفضل أن يمضي كل في طريقه بسلام"
وقبل ذلك بوقت ليس قليل, كان بعض المغنون والمشردون وعقلاء كثر قد إستشعروا الخطر المحدق بالبلاد الكبيرة, فرفعوا أصواتهم. وعندما طالتهم يد المطاليق الباطشة, هربوا إلى مملكة الجوار أقصى السافل, وتتالت موجات الهرب من الصعيد ودار الريح وبندر الوادي, ثم تداعت الأحداث بإنفصال الصعيد.. وفي خضم هذه الظروف تآمر المطاليق على ود التويم ودسوا له عند السلطان, وزعموا أنه وراء تهريب الأهالي إلى مملك الجوار في السافل الأقصى, ليقودوا ثورتهم على البندر من هناك, فأصدر السلطان أمرا بإعتقاله ومصادرة كل ممتلكاته, وعندما إلتقى ود التويم جقندي بعد إطلاق سراحه مباشرة أخذ يبكي ويقول:
"الما عندو جماعة ولا مال هل يبكي عمره عمال على بطال؟"
فهدأ جقندي من روعه قائلا:
"الجماعة ما بتنزل على رأيك والمال ما بيدوم والما عندو ذكر للروح العظيمة يموت مغموم"
فرد ود التويم:
"إنما أبكي على الوادي.. هل يستحق الوادي كل هذه الأحزان والإحساس بالضياع؟ هل يستحق أن تغتال ذاكرته ويترك للموت وحيدا ؟"
"لكنه صنع هذه النهاية لنفسه.. نسجها بعناية ودقة.. كان كل شيء متوقعا.. كان يعلم انه يمضي إلى حتفه بإصرار"
رمى جقندي كلماته بوجه ود التويم ومضى.
صعد والأهالي والمشردون خلفه إلى شرفات جبل كارناسي, وأخذ الوادي المنسي من بعيد ومن أعلا يتضاءل شيئا فشيئا, والنيران تشتعل في كل شبر فيه, فتستيقظ الأرواح الضالة والظلال المعذبة وتحترق..
فيتبدى درب يفضي إلى نقطة البدء في الرحيل والتنقل المستمر.. يختبرون يقينا لا يفتر بعد أن شيدوا من الرماد النقي ذاكرة, وغزلوا عزلتهم من غبار الشهب.. كانوا عزلا إلا من ذكرى عتيقة وحنين قديم ثاو في أعماق الذاكرة المنهوبة, التي تعيدهم الآن في حياتهم الأخرى إلى جراحاتهم الغائرة التي لا تندمل.. جراحات بلاد غادرت نهرها.. واديها.. قمبيلها.. طيورها.. بلادا إحتجبت في الحضور الوهمي لأكاذيب النقاء العرقي والسلالات المقدسة للشرق السعيد, وبقايا أقاصيصه القديمة ك"أنا" ليس بعدها في الخلق أنا!.. الذكرى التي لا تستحق أن يحزن لأجلها أحد..
الآن يشرع الناجون الذين يشقون بعصيهم في نهر النار دربا للضفة الأخرى, يشرعون أنفسهم على الفراغ العريض للخلاء الواسع.. تضع خطواتهم على تراب الطريق, أولى الخرافات الجديدة, التي تأثثت بمخلوقات دمار العالم والريح والحرائق.. يضعون بصماتهم على سطح الماء ليحملها, وبعد أن ينحسر السيل, يرمي بها إلى شواطيء بعيدة.. يدفنها بالرمل. ليجدها العشاق والمغنين ورواد الأندايات, بعد عشرات السنوات, محبوسة في قمقم يفتحونه على آلاف الحكايا, عن وطن تم تشييده في المنفى وأنين أم كيكي؟
لكن الحكاية لم تبدأ لتنتهي هكذا.. بدأت بالحب وفي الحب؟
من أكثر الأمور التي لفتت إنتباه جقندي في هذا الوادي هي علاقة الناس بالحب, فسكانه الذين يعتقد أي منهم بسخاء مريب, في أنه أفضل من الآخرين, ويبدو كريما وشجاعا وودودا لأقصى حد. في أغلب الأحيان هو ذاته من يتسرّب كل صديد الأرض وديدانها من نفسه الخرِّبة المتهرئة, وبينما يتحدث عن الفضيلة ياتي بكل أنواع الرزائل والشرور وهو يلوك بلسانه السلام والمحبة حتى لتخاله الجنزير التقيل؟!
كان أهالي الوادي إذن على الدوام, حتى في مشاجراتهم العائلية, يسعون لمضاعفة إحساس بعضهم البعض بالذنب والإيلام, بالمبالغة في تصوير الأخطاء الصغيرة والجرائر العابرة, وذلك لم يكن يؤدي سوى إلى إحياء المرارات والأحزان والآلام القديمة بقوة, مرة أخرى ومن جديد. حتى أن الوادي يبدو كمكان عتيق لرعاية الأحقاد المتجددة.. لذلك توقف جقندي فيما يعنيه الحب لهؤلاء الناس.. وفي الحقيقة كان الحب الذي يمارسونه نوعا غريبا من الحب.. إذ يبدو أحيانا كشمس ساطعة هادئة الحرارة, في خميلة تضوع فيها كل الروائح العطرة, وتجري فيها الجداول الصغيرة, التي تروي أزهارها وأشجارها وورودها.. خميلة مسكونة بعصافير الجنّة الملوّنة, التي لا تكف عن الغناء.. ويبدو له في أحيان أخرى كعاطفة ملعونة تتسرّب نيران الهجر والأحزان فجواتها التي تتسع ببطء مرعب, يُغذي المخاوف وإنفلاتات البلوغ, التي تصنع بقعا صغيرة متعفنة بين الأفخاذ الجائعة..
كان إذن و غالبا يبدو أسوأ من "أنداية" كبيرة يشقها النّهر قسمين, مثلما يبدو أحيانا المكان الغامض نفسه الذي ألفه الرحل وأدركوه كما أراد لهم الروح العظيمة تماما! رغم الإنحطاط الأسطوري الذي يزرع أسئلة حائرة في الأدمغة, التي تنتمي لكل سلالات الأزمنة الغابرة, الغارِّقة في أسرار المادة والروح, المجردة من أي نزوع ألوهي تطمئن له النفس!
أنه الوادي إذن كما تكون في التشظي, وتمزق عالم يؤول للإنهيار.. عالم تنهض فيه القبل الأربعة لبندره, مغموسة في النقع والغبار, حيث تبدو ملامح الأهالي والمطاليق شبحية, كشخوص مجهولين, جاءوا من كل مكان يحملون أحزانهم.. حرمانهم وهزائمهم.. إحباطاتهم وخذلاناتهم العميقة..
فالمطاليق الغرباء لم يأتون كالمغنين الجوالة, المرتحلين بغنائهم الرومانسي المعذّب حتى في اللانهاية, كأبونافلة المغني الأسطورة..
فأبو نافلة ما أن بلغ الثالثة من العمر توفي أبوه, فتربى عند "خواله" في دار الرِّيح, ثم ألتحق بالرُّحَلْ ولم ينل من علومهم شيء!, ولذلك لقب بأبي نافلة, فقد كان شغوفا بالغناء والمسادير والدوبيت والجراري والمردوم والشاشاي.. ولهذا السبب وجد معارضة شديدة من أهله, فهرب إلى بندر الوادي..
هكذا مثل الآخرين جاء عابرا بخياله "طابقا على ظهره القوقو", يحمل وعثاء الطريق داخله. ليعبر المدى الواسع, الذي تعبأ بكل ما توهمه الأهالي والمطاليق من حب وراحة بال.. كان غريبا مثلهم. إتكأ على صدر البندر ينفض عنهم وعن نفسه العذابات, لينهار وجدانهم مثلما نهض في الإنهيار بفعل الغربة والحنين.. غربتهم عن الشرق السعيد.. وغربته عن الصعيد ودار الريح...
وجدان الأهالي هو بندر الوادي نفسه لحظة الميلاد, في قلب سوق العناقريب. حيث يستمرأ الجميع تعاطي الأحاجي وحواديت البلاد الكبيرة, عن الذي يأتي ولا يأتي, وميلاد عصر جديد تفتتحه "الأندايات براياتها الحمر" المميزة, ليتغلغل التواصل بين الجزر المعزولة في الوجدان بعيدا عن الجغرافيا, فيخرج الأسلاف المزعومين ألسنتهم ويهزون أذونهم..
الأسئلة في بندر الوادي عادة مضرجة بالدماء والنزيف, كالنزيف على جبل كارناسي.. هذا النزيف الذي لم يشيد شيئا وهدم كل شيئ..
كيف لهم أن يفهموا أن جبل كارناسي خارج إطار الفيزياء, وأنه مهما نزف –مع ذلك- سيظل أخضرا في فضاء البندر الملتاع بأحجيات المهاجرين القدامى والجدد.. مبتدأ التمزقات والمطاليق والفوضى.. ربما ينفي كارناسي نفسه كأبونافلة.. يزحف عميقا في طبقات اللاوعي القصوى, ليحرر الناس والطير وبندر الوادي وأشجار القمبيل.
حافرا في مزيد من الأسئلة الحرجة والحارقة, حيث يمر الرُّحَلْ في ثيابهم الجديدة عبر ثقوب الآيديولوجيا, ليحتدم سؤال الهوية ويلف ويدور حول نفسه.. وحول ما إذا كانت ونيسة الحنانة أجمل أم جليسة المشاطة أجمل.. أو أن ما قتل المغني أبونافلة هو الحب وليس سم أبوالدرق.. و كل المدلين بدلائهم والدلاء ذات نفسها تتدلى في الفراغ!..
إلى بندر الوادي يأتي القلقين والموتورين, الذين لا يستطيعون التخلص من حساسيتهم المفرطة, التي تجعلهم يبدون كمشئومين مهددين بالغربة والإغتراب حيث هم وأينما حلوا!.. وربما توهم بعضهم المنافي بعيدا عن الوادي.. كانوا مصابين بأدواء الغربة والحنين يغمدون تأوهاتهم في مزيد من الجراحات, أقصى تفاصيل الفجيعة والدمار.. الواحد منهم على الدوام يمضي بإحساس محارب منقرض..
أنه وادي المطاليق.. وفي الوقت نفسه هو وادي المشردين والأهالي, الذين يبدون كقوم بسطاء.. وادي الباحثين عن وطن دفء.. يفيقون الآن من سكر دام لعقود طويلة على وقع الدمار الرابع.. عندما تتسع مديات الألم والرعب إلى حدودها القصوى وتبلغ منتهاها في العيون الخبيئة الكابية. ففي فراغ البندر تمر الصور.. الذكريات والأخيلة التي عاشوها متمزقة بالأسى والحرمان, فيما روح كارناسي الشاب تحفر على جدار الكهف المقدس, أحداث ووقائع العذابات اليومية, بوحدتها ووحشتها وأساها, في الخط الفاصل بين عالمين, ينطوي كلاهما على نبؤة المأساة..
شعب الوادي الذي يتكون في التمزق الشامل للناس والحياة والوادي ذاته.. الوادي بطبيعته وناسه وإحساساته الغامضة.. الوادي الشاهد على إندثار الأجيال الملاحقة بأسئلة الوجود الكبرى عن المصير والمصير؟!..
حياة الوادي المتبدلة هي حياة الأسئلة الحارقة نفسها, منذ كان السؤال هاجسا في خاطر الكون, في لحظة دقيقة تفصل بين عالمين, ينهض على ركامهما وادي آخر, كشاهد على عواصف الدمار الرابع.. لحظة الخروج من ظلمات الوادي, بزوابع التاريخ. إلى نور الطوفان الذي أغرق الوادي في الأسى..
و.. و.. و بعد أن مضت على جقندي عدة أيام منذ آخر لقاء له بالسلطان, جاءه ود التويم وقال له:
"زوج أختي مات وتركها صغيرة وغنية وجميلة, لكن رجال الوادي لا يحبون المطلقات, أمشاك معاي.. نزوجها ليك, وتعطيها وتعطي كل أهل الوادي علمك.. هذا هو مهرها"
فرفض جقندي العرض وأخبره أن على أهل الوادي طلب العلم من المشردين, الذين كانت حلقات بعضهم, ممن إتخذوا "العصا أو القرف" أو.. شعارا.. قد بدأت في العمار, إذ إجتمع عليها "خلق" كثيرون, إذ كانت "نار سوميت" موقدة طوال الوقت, والمشردون قائمون على خدمتها, وبعض الأهالي قد تنامى فيهم "عشّم".. خصوصا ود التويم, الذي كان منذ طفولته الباكرة يشعر بقوة خفيّة, تشده بقوة لإعتلاء قمة جبل كارناسي. فكان يتسلل خفيّة من عيون الأقران والأهل والعشيرّة.
يشق طريقه عبر جنقل السلطان, ويمضي دون أن يوقفه شيء: لا المخاوق التي تملأ الوادي فيما يحكي الأهالي عن الجن الذي يسكن الجبل, ولا شياطين الظلام.. ولا الأرواح الشريرة ولا المطاليق.
يبدأ ود التويم رحلته متشبثا بالحجارة الناتئة, مرتكزا بقدميه على شقوق الجبل وبروزاته الحادة. يصعد.. يصعد مدفوعا برغبة بلوغ القمة, وإكتشاف أسرار الجبل في ذروته, التي تلامس السحاب, حيث تبدو أشجار القمبيل والوادي من هناك, كظلال تختبيء خلف ضباب رطوبة الوادي المتلفع بعتمة التاريخ.
في عروق ود التويم تجري دماء بلوغ القمة! المنحدرة من الجد الكبير "سراج البيت", الذي عاصر المطلوق بادي, في ذلك الزمان البعيد من ضلالات الوادي.
كان "سراج البيت" قد تزوج بإمرأة من الرُّحَلْ, أنجبت له"حرّاس العقاب" و"ست الدار" التي إختطفها بادي وأنجب منها المطلوق الدود أبوحجل.
من دماء حرّاس العقاب جاء ود التويم بعد عشرات السنوات, مثلما جاء أبو شوتال من دماء الدود أبوحجل من بعد.
في تلك الظهيرة البعيدة. الملأى بأسراب الجراد, التي حجبت قرص الشمس, مما عمق الخوف في فضاء الوادي, ولد حرّاس العقاب, ولما كان والده "سراج البيت" شيخ أحد عشائر الوادي ذات الشوكة, والتي تحتكم على الكثير من العبيد والجواري والقطعان, ومشاريع الزراعة والأراضي, فضلا عن نفوذها التاريخي الذي جعل أفرادها دائما وفي كل العهود, أعضاء في مجلس العشائر والأسر, الذي هو مجلس السلطان نفسه!..
إهتم سراج البيت كثيرا, بأن يتلقى إبنه حراس العقاب, كل ما يمكن أن يحصل عليه من علوم, تفيده في وراثة موقعه في مجلس السلطان بعده, فبعث به إلى دار الريح, ليعرف لغات القبائل هناك. وكان حرّاس العقاب بذكاءه الوقاد, قد إستطاع تعلم أربعة من لغات دار الريح, وعندما عاد إلى الوادي لم يلبث إلا قليلا حتى بعثه والده إلى الصعيد, وهناك تعلم ثلاتة لغات أخرى.
فكان حراس العقاب من دون كل أقرانه ورغم صغر سنه, الوحيد الذي يتحدث سبعة لغات حيّة؟! من لغات الوادي؟!, وعندما توفىي والده سراج البيت, الذي كان يجمع في عشيرته بين الزعامتين: الروحية اللازمنية والدنيوية الزمنية, حرص حرّاس العقاب دونا عن اشقاءه وأعمامه, على وراثة كل شيء, فقد كان يتصور أنه الأفضل, دون أن يطلع على ما يفضله أهالي الوادي في حياتهم اليومية.. وورث الزعامتين!.. ورغم كل الإعتراضات الكثيرة داخل عشيرته. لم يأبه لأحد. وتمكن من فرض نفسه على الجميع, كزعيم روحي لا يأتيه الباطل من شنآن وكزعيم مادي مفوّه..
إذن تمكن من فرض نفسه عبر سلسلة معقدة من الإجراءات والمناورات الماكرة, التي مكنته من أن يتجرأ على معارضيه داخل الأسرة, بتنحي شقيقه الأكبر عن مكانه داخل الأسرة ومجلس السلطان وكل شيء.. وإنزواءه بعيدا في إرشيف الوادي البائس.. وهكذا ملأ حرّاس العقاب الأمكنة التي أشرف بنفسه على شغرها. بعد أن قام بترتيبات عديدة مع السلطان والمطاليق, وبعض أعضاء مجلس السلطان الذين كان قد أغرى بعضهم بتزويجه من شقيقته الصغيرة "ست الدار" لتكون حلقة الوصل بين بين.. وفي ذلك الوقت, وعند موت السلطان "الكرباج", إنقسمت العشيرة الملكية, وأستولى بادي الأخ الأكبر للسلطان "جبل الحديد" على الملك, فقاد "حرّاس العقاب" بمساعد المطاليق وعشيرته, معارضة جسورة لإسقاط بادي وإعادة أخيه الأصغر "جبل الحديد" الملك المخلوع.
في سنوات مراهقته, لازم حرّاس العقاب الشايب الجنزير التقيل ردحا من الزمن. وقتها كان الشايب الجنزير التقيل قد وطن نفسه على البقاء في الوادي, فقد كان الناس عندما يعرفون في ذلك الزمان, أن قوافل الرُّحَلْ تمر ببلدانهم الآن, يتقاطرون عليها من كل مكان لزيارة الجنزير التقيل.. يأتون دافرين منهم من يحمل العسل ومنهم من يحمل السمن, ومنهم من يحمل القماش ومنهم من جاء برقيقه:"كل واحد يقع قدر قدرتو.. الجمل بشيلو والحمار بشيلو".. جميعهم يأتون لزيارته, فيستقبلهم لابسا "شملته الرباعية". ناره موقدة طوال الوقت وقداحته ستون قدحا, والكسرة مديدة تسوطها نساء الرحل في البرام, شادات وسطهن بالمناطق.. ووصفة الكسرة دقاقة. نجيضة. وخميرة الماء عليها مثل الفلفل, تارة تكون بالملاح وتارة تكون بالماء(ثخينة).
وكان الجنزير يتقبل هداياهم ثم يعود فيعطيها "للعُشام" بعد أن يقضي غرض كل الزوار بمطالبهم المختلفة, ففيهم من يطلب المال وفيهم من يطلب الولد وفيهم من يطلب الصحة والعافية أو تقريب البعيد, لكن أكثرهم كانوا ممن يريدون أن تكف أيادي المطاليق عنهم.
لكن علاقة حرّاس العقاب بالجنزير التقيل لم تبدأ هنا في هذه اللحظة التي قرر فيها البقاء في الوادي, فقد قضى حرّاس العقاب من قبل ردحا من الزمن في مضارب الرُّحَلْ, لينهل من علومهم وأسرارهم, حتى عدوه واحداً منهم, وزوجوه من إحدى بناتهم.
حياته في مضارب الرُّحَلْ فتحت ذهنه على الكثير من الأمور الغامضة, في تاريخ الوادي والحياة والناس وأسرار الروح العظيمة, ما حفز ذكاءه الوقاد وأرتقى بمهاراته, التي تبدت بوضوح في قدرته على حسم الصراع على الزعامة الروحية والدنيوية, داخل أسرته لمصلحته بعد وفاة والده بقليل, وبدأت تلك المهارات تعلن عن نفسها بوضوح أكثر عند إستيلاء بادي على الملك ومقاومة حرّاس العقاب لهذا الإنقلاب ونجاحه في إعادة السلطان جبل الحديد مرة أخرى.
تفتح وعي حرّاس العقاب على الصراعات, التي تجري في الوادي في مرحلة معقدة وحرجة من تاريخه, إذ وقتها كان الصراع محتدما بين تيارات عدة: فهناك من يمثل أفكار الرّحَلْ بقيادة "العنتيل".. وهناك من يمثل أفكارا قريبة الشبه من أفكار حرّاس العقاب, في جوهرها لكنها تختلف عنها شكلا, وهذا التيار كان يقوده "أب زنقلة"الذي كان ينادي بوحدة الوادي مع مملكة الجوار في السافل الأقصى, بينما كان حرّاس العقاب يرى ضرورة بقاء وادي الذهب مستقلا.
هذا الإنقسام في التوجهات, كان متمكنا أيضا من الأهالي الذين كان عقلاؤهم بقيادة العنتيل, يسخرون من أب زنقلة وحراس العقاب معا, فبينما يعتبرون الأول جاهلا جهلاً تاما! يعتبرون الثاني زائف الوعي, بصورة لا حدود لها, وأنه لم يأخذ من أفكار الرحل سوى القشور. وفي الوقت نفسه كانت العلاقة بين عشيرة حرّاس العقاب وعشيرة أب زنقلة, التي لا تقل عن عشيرة حراس العقاب نفوذا على الوادي.. كانت علاقة مضطربة, تسودها المنافسة والمكايدات, رغم صلات المصاهرة والنسب والعقائد الطائفية العميقة التي تجمع كليهما.
رغم ذكاءه إلا أن حراس العقاب, كان طموحه يفوق حدود قدراته ومواهبه الطبيعية, كما أن أب زنقلة كان بطبعه ميالا للخلافات والإنقسامات منذ وقت مبكر في سنه, فقد إنقسم على أسرته وهو صغير, وعندما كبر قسم الأسرة التي كونها, وعلى الرغم من حرصه على أن يبدو دائما كمنشغل بهموم الوادي, إلا أن معظم النظريات الخطيرة, التي عصفت بالوادي كان هو من يقف خلفها. لذلك كان مطاليق كثر يعتبرونه كخادم متطوع لأجندتهم الخفيّة, بل مضى بعضهم لإعتباره زعيما روحيا سريا لهم, رغم كراهيتهم المضمرة العميقة له.
وبينما كان أب زنقلة يدعو لفرض تعاليم الروح العظيمة, كان في الواقع يستغل هذه التعاليم, لإحداث الإنقسامات والإنشقاقات في الوادي, بما كان يلبسه لها من لبوس عنصرية, أسبغت على عشيرته صفة النبالة والملوكية, لكونها نقية العرق كما يزعم!.. الأمر الذي جعل جماعة العنتيل يعتبرونه مفسدا ومشوها لتعاليم الروح العظيمة, ومصابا بجنون العظمة ضمن أدواء مزمنة أخرى لاحصر ولا عد لها.
فأب زنقلة لم يكن يتورع من نسب نفسه لشعوب الشرق السعيد, التي هيأ له خياله العجيب أنها أرقى؟! وهكذا أمعن في التعالي على الإنتساب لشعوب وادي الذهب, وأهاليه. وهو الأمر الأساسي في تفكير أب زنقلة الذي جعله مقربا من سلاطين كثر حكموا الوادي, وعاصرهم على عهد سطوة المطاليق. حتى أنه عندما قام بادي بذلك الإنقلاب الشهير, كان أب زنقلة أول من دعمه!, ورغم محاولاته الظهور بمظهر الداعية, إلا أن كلا من العنتيل وحرّاس العقاب, كانا يريان فيه شخصا مخادعا عاشقا للسلطة ولا أمان له. صاحب طموح لا يحد وخبرة لا توصف في حياكة الدسائس والمؤامرات. أفصحت هذه الخبرة عن نفسها, في علاقته المريبة "بلاكو أتو" أحد أعيان الصعيد.
في الوقت ذاته الذي ولد فيه "لاكو" كان الوادي قد تغير كثيرا. أصبح سكانه عندما ينامون ويستيقظون في الصبيحات الباكرة, يجدون على فراشهم حيث ناموا رائحة غريبة وبقايا بلل, كأنهم يعودون لطفولاتهم المفقودة في غمرة الفجائع والأحزان.
في غمرة مثل هذه الأحاسيس الشائعة ولد لاكو في إحدى كبرى قبائل الصعيد, ومنذ طفولته الباكرة كان مغرما بالتأمل, وتلقى علوما ومعارفا محلية كثيرة خلال تجوال أسرته لسنوات عديدة بين قبائل الصعيد, كما تلقى العديد من المعارف عندما بعثه والده إلى الجوار, ما وراء منابع النهر الذي يتوحد ليشق بندر الوادي إلى قسمين.
هذه المعارف العديدة, جعلته يرى بوضوح: أن أهل الوادي على إمتداده لا يعرفون بعضهم البعض جيدا, لكنهم بلغاتهم وعقائدهم المختلفة, يصلون للإله نفسه: الروح العظيمة, الذي يعرفهم ويفهمهم جميعا, مهما إختلفت لغاتهم والأماكن التي يعيشون فيها.. يعرفهم واحدا واحدا.. لكن فجأة تغير كل شيء, فكان من السهل عليه أن يرى الآثار التي خلفها فساد السلطان والمطاليق مرسومة بوضوح في كل شيء في أركان الوادي الأربعة, فالوادي أصبح كالمستنقع. يطفح بالوحل والروائح النتة والزنخة.
خلال سنوات تجواله الطويلة إكتسب لاكو الكثير من المعارف والخبرات, وأثبت كفاءة عالية وبعد نظر في الخلافات القبلية في الصعيد, والخلافات بين الصعيد وبندر الوادي, والتي قادت في نهاية المطاف إلى إصرار أهل الصعيد على الإنفصال, يقودهم لاكو أتو نفسه.. فمواهبه كمحارب جسور أيضا كانت قد بدأت في التفتق, وأخذ أهل الصعيد يعتبرونه زعيما قوميا, بل أن الكثيرون من أهل دار الريح ودار صباح البعيدة كانوا يستلهمونه, وكذلك ناس السافل الأقصى أعتبروه زعيما قوميا..
وهكذا كان لاكو ملهما لشعوب الصعيد ودار الريح والسافل الأقصى ودار صباح البعيدة حيث تبدأ الشمس رحلة الشروق. إلى أن نجحت سلسلة من المؤامرات المعقدة, التي حاكها أب زنقلة بمهارة في القضاء عليه مسموما بسم "أبوالدّرق" وغريقا في المركب التي كانت تقله من بندرالوادي إلى حاضرة الصعيد. "حتل به الجاسر" في منتصف المسافة وهو يحاول بلوغ الضفة الأخرى للنهر.. كان السُّم قد تمكن منه ولم يمهله.
هؤلاء الرجال: العنتيل, أب زنقلة, حراس العقاب, و.. من دمائهم بعد عشرات السنوات, سيأتي أحفادهم ومريديهم الذين يجلبون المزيد من الدمار لوادي الذهب.. ويتسببون بسياساتهم المختلة في الدمار الرابع بعيد إنفصال الصعيد بقليل.
المفارقة هنا أن هؤلاء الرجال مثلما ولدوا هم وأحفادهم وتابعيهم كقادة, ظلوا يصرون على الموت كقادة, ولن ينجح أحد داخل طوائفهم في زحزحتهم من مواقعهم القيادية أبدا طيلة حياتهم الطويلة, إذ يلاحظ أنهم لا يموتون سريعا كبقية الكائنات.. وجميعهم بمختلف إتجاهاتهم كانوا مخادعين, وفي الحقيقة لا يختلفون عن بعضهم البعض كثيرا, مهما إدعوا التمايز عن بعضهم البعض أو حاولوا تمييز أنفسهم.
حاضرة الوادي, التي إعتاد الرُّحل منذ عشرات السنوات أن تكون إحدى محطاتهم الأساسية, في مختلف عهود هؤلاء الرجال وأحفادهم, كانت أشبه بأوهام التاريخ المريرة, فقد كانت أكبر سوق رقيق في الوادي, ولهذا السبب بالذات كان إزدهارها لا تطفئه إلا موجات الجفاف والتصحر والأوبئة الكارثية, التي يكون دائما أغلب ضحاياها من العبيد والغلمان والجواري.
كان هناك ما يشبه التحالف السِّري غير المعلن بين هؤلاء الرجال والمطاليق, الذين ظلوا عبر تاريخ الوادي يؤثرون في إستمرار هذا المكان (بندر الوادي) كحاضرة لكل وادي الذهب, فهذا البندر الرّهيب كان على الدوام مقرا للحكم وقاعدة للإنطلاق نحو الحدود الواسعة للبلاد الكبيرة, التي يتكون منها وادي الذهب في إتجاهات القبل الأربعة.
الحوادث والكوارث دائما مركزها هنا: بندر الوادي. حتى المركب التي أقلت لاكو وغرقت به, وكل المراكب الأخرى التي أقلت كثر عبر تاريخ الوادي, وغرقت بهم. كانت دائما تقلهم من هنا. فتنتشر الشائعات بعد كل حادثة غرق, أن المطاليق والسلطان هم من يقف خلف مثل هذه الحوادث المريعة.
وعندما يتأمل جقندي الآن سيرة حياة هؤلاء الزعماء وأحفادهم, يجد أنهم كانوا يعانون إحساسا غامضا بعدم الإنتماء, فجميعهم كانوا يعانون الإنتماء إلى أماكن غامضة خارج حدود البلاد الكبيرة.. ما قاد الوادي إلى نهايته الوشيكة. التي لا جدال حولها وهو ما لا يستطيع فهمه على الإطلاق!!.
ورغم تحضيره لروح جده الجنزير التقيل مرارا وتكرارا, لفهم هذا الأمر إلا أن الجنزير التقيل ذات نفسه لم يعطه عقادا نافعا!.. فأخذ يجتهد ليدرك أن هذا الوادي ما هو إلا مكان ملتهب بالمخاوف والهواجس والظنون, يعتصره نوع غريب من الألم البطيء العذاب والعِرّى الفاضح, حيث تحاصر الروائح الزنخة والنتنة بكل أنواعها, كل شيء فيه, وحيث تجيء الأصوات المتناقضة من الأندايات لتحاصر فضاءه الشاحب.
ومن بين كل هذه الأصوات يتعالى صوت أبو نافلة, الذي منذ حل ببندر الوادي ظل متمسكا بالغناء. و رغم قساوة ظروفه وعنت حياته أستطاع تعلم العزف على الربابة وأم كيكي والوازا, واتصل بالتنقار مغني الوادي الأشهر, فوجد فيه الأخير موهبة كبيرة فاق بها فيما بعد مغنين زمانه, حتى أن التنقار شعر نحوه بحسد شديد, أفضى به فيما بعد إلى الموت بصورة درامية, إذ وجد ميتا وأم كيكي المتكئة على صدره, تعزف لوحدها. ووفقا للأحفورات على جبل كارناسي, أنه هدد أبونافلة أما أن يخرج عن البندر, أو يسلط عليه المطاليق فيغتالونه. ففضل أبونافلة الخروج عن بندر الوادي, قاصدا مملكة الجوار على حدود السافل, حيث تعلم هناك الكثير من فنون الغناء وطرائقه وألوانه, حتى ماهو غريب عن وادي الذهب. وأصبح بذلك من أمهر وأشهر المغنين والملحنين..
وعندما تآكله الحنين إلى الوادي إتصل بالسلطان الكرباج, يستأذنه ويطلب حمايته. وهكذا عاد فجعله السلطان من خلصائه وندماءه. فحاول إعادة صلته بالتنقار, الذي كان لا يزال من أنصار الغناء القديم على عكسه فقد كان مهموما بتجديد أغنيات الوادي القديمة بما أكتسبه من معارف موسيقية ثرِّية.
شيد أبو نافلة بعد عودته إلى الوادي دارا كبيرة, جعل حديقتها أشبه بحديقة قلعة بادي, التي تشبه الحديقة السماوية السرمدية. كما قام بنقل الكثير من الأشياء من مملكة الجوار إلى بندر الوادي, كالأقمشة الزاهية والمزركشة والشيشة والكشري, وهو صاحب أول مقهى ببندر الوادي. كما تفنن في وصف الأطعمة والحلويات, وأحب العطور. بل وكان هو أول من إستخدم الصابون المعطر ومزيلات العرق, وزيوت الشعر المعطرة بزيوت كان يستخرجها من الريحان والسعدة, بدلا عن الودك والكركار وزيت السمسم أبوالولد. حتى أن الأحفورات تؤكد في كثير من المواضع, أنه إرتقى بالذوق العام. عندما تصف الطريقة التي كان يأكل أو يشرب بها, فقد كان يمضغ الطعام على مهل وفمه مغلق.. ويتحدث بأناقة. وكان جملة يلفت الأنظار بسلوكه الرفيع. ومع ذلك كان بهيميا جدا عندما يسكر وتغدر به المريسة أو العرقي.
وتذكر الأحفورات هنا, أنه أول من لفت نظر نساء البندر, إلى إستخدام المناديل كهدايا للعشاق وألف في ذلك أغنية سار بصيتها الركبان.. كما وأخبرهن أنه يتوجب عليهن أن يطرزن على هذه المناديل قلوب مطعونة بسهام ورماح, أو زهور محطمة, أو ورود منكفئة على الحرف الأول من إسمي الحبيب والمحبوبة, وأن تكون مختلفة الشكل واللون والطول والحجم.
إقترح أبو نافلة على السلطان أن يتركه يعقد حلقة لتعليم الغناءوالرقص والعزف على ام كيكي والزمبارة والوازا والربابة, فكان له بذلك الفضل في تعليم جواري الوادي هذه الفنون, فبرعن في العزف على أم كيكي وعشقن الزمبارة كثيرا و أحببنها أكثر من كل الآلات الأخرى, وبرعت في تعلم العزف عليها كل من جليسة المشاطة وونيسة الحنانة, والإثنتين كان قد أهداهما له السلطان الكرباج, عندما أبدى إعجابه بجمالهما في حضرته في إحدى حفلات القصر الخاصة, وكان يكن محبة خاصة للمشاطة المغنية, التي كانت من أجمل النساء وأكملهن, وقد قال فيها من الشعر والغناء العذب, ما جعل إسمها على كل لسان. فهي حينا ملكة النهر وهي حينا إبنة التمساح العشاري و أسد البراري أو تمساح الدميرة.. وهي حينا آخر إبنة عشا البايتات كحل السراري.. وتذكر الأحفورات في هذا السياق أن المشاطة دعته يوما.. وهو في طريقه إليها إعترضته الحنانة, فأقام عندها. فشق ذلك على المشاطة, وشكلّت هذه الحادثة, منعطفا خطيرا في حياتها معه, إذ أصبحت لا تغني سوى غناء الحزن والحسرة والأسف لتنقص على كل العشاق حياتهم, الأمر الذي أدى إلى أن يبيعها في سوق دار الريح بأقل من ثمنها بكثير, لكن عندما طال به الحنين وفاض به الشجن, مضى يبحث عنها وإشتراها بأعلا من ثمنها بكثير, وعندما عاد بها -وفقا للأحفورات- أنه أقام معها في حديقة داره لا يفارقانها, يلهوان ويأكلان ثمار القضيم, حتى "شرقت" المشاطة بحبة قضيم فلفظت أنفاسها بين يديه.. فجن جنونه على موتها بهذه الصورة الدرامية, فأبقاها ثلاثة أيام يشمها ويقبلها ويذرف الدمع الثخين على فراقها, حتى عاب عليه معجبيه وندماءه ذلك. وبعدها بثلاثة أيام مات هو الآخر مقتولا بسم أبو الدفان, ولم تنتهي بموته حلقة تعليم الغناء, إذ إستمرت تثمر مغنيين ومغنيات غالبيتهم العظمى يخلون من الموهبة تماما!. لكنهم على أية حال لديهم معرفة عامة عن العرضة والصقرية والكمبلاوالمردوم والجراري والشاشاي, كفنون إخترعها أبو نافلة أثناء تدخينه الحشسش, إذ كان عندما يجري الدخان في دماغه يشعر بنفسه ضخما كالفيل, وهكذا أنتج هذا الضرب من الفنون الفيلية التي يرقصها ويغنيها الأهالي.
كان سلوكه اليومي تماما كشعره وغناءه ورقصه, فقد كان سباقا إلى العديد من المعاني والصور, وكان أصفياؤه يدعونه "بصعلوق آخر الزمان" نظرا لتهتكه أحيانا في سرد قصصه الغرامية, فهو اول من أدخل الغناء والرقص عناقريب النساء في بندر الوادي, كما كان في أوقات فراغه يحب التسكع بين الأندايات, وسمي وادي الغزلان بهذا الإسم نظرا لأنه كان يتسكع فيه لأيام طوال, فيولم ويشرب الخمر والحشيش, ويسقي ندمانه ويأمر جاريتيه المشاطة والحنانة بالغناء والرقص, ولا زال متسكعا بهذا الوادي حتى هجره "الوزين" والغزلان, وجفت غدائره وأشجاره, لكنه ظل يحمل إسمه القديم.
وكان أحيانا يغير مع المطاليق على القرى والفرقان في دار الريح, وفي الواقع حياته كانت قصيرة لكنها طويلة بسبب ما تراكم فيها من وقائع , وما عاصره من حادثات. وبسبب كثافة إنتاجه ونوعيته. فوفقا للأحفورات على جبل كارناسي أنه ألف ولحن وغنى أكثر من ثلاثة آلاف أغنية؟ صنفها في ثلاثة مراتب, الأولى: بديعة , والثانية: وديعةو والثالثة: رائعة.. وحاول إبنه الخزين من بعده إعادة تقييم هذا الإنتاج الكثيف, تحت وطء الثرثرا والسجالات والنميمة في الأندايات, ولذلك حفاظا على المقام الذكي لوالده تفرغ لهذا الأمر تماما, فلم يجد شيئا جديرا بنسبته لهذا المقام سوى ثلاثة قصائد بائسة ولحنين فظيعين وأغنية مريعة!. لكن ولإحقاق الحق أن أبونافلة تمكن من إدخال تحسينات كثيرة على الغناء وآلاته, حتى أن البعض كان لديه إعتقادا جازما أن الروح العظيمة شملته بعناية مباشرة وفائقة وخاصة جدا.
تشير الأحفورات على جبل كارناسي, أن من وضع ابوالدفان بين ثقوب "عنقريب القٍّدْ" الذي ينام عليه أبونافلة هو التنقار, لكن معجبيه يؤكدون أنه مات "حبا" فسم أبو الدفان.. وفقا لمزاعم الأحفورات, أهون من أن يؤثر في جسده الذي إصطفاه الروح العظيمة بالحيوية.. دليلهم على ذلك أنه كان مع المشاطة حتى الرّمق الأخير من أنفاسها الفائحة برائحة القضيم. وعلى كل حال شيد له الأهالي مزارا على الضفة الأخرى من النهر, أصبح من أهم أضرحة ومزارات الوادي, الذي دان له بالوفاء عبر التاريخ, الذي سينقضي بحلول الدمار الرابع.. ولا يزال أهل الوادي حتى تلك اللحظة الفاصلة, يتوقفون عند غنائه ويجعلونه معيارا لنهضة الشعر والغناء والألحان أو تدهوره, خصوصا أن أولئك الذين يرتادون الأندايات, قد عنوا به وعظموا من محاسنه وأقبلوا على نشره في كل الأندايات.
II
فتاة الرُّحَلْ التي تزوجها سراج البيت, كان قد رآها عندما حط أهلها رحلهم على وادي الغزلان, قبالة "جنقل السلطان". أنجبت له حرّاس العقاب, الذي ما أن بلغ سن المراهقة, حتى أوفده سراج البيت إلى خيلانه الرُّحَلْ, لينهل من علومهم ومعارفهم, التي أشتهروا بها. وفي الحقيقة كانت تلك هي فكرة زوجته بنت "أب دفرة", التي ظل يتآكلها الحنين لحياة قومها, فمنذ تزوجت سراج البيت وإلى أن أنجبت له ست الدار.. لم تخبو جذوة حنينها على تلك الحياة, التي تشعر فيها بكيانها المستقل, كنساء قومها اللائي لا تتأثر إستقلاليتهن حتى بالزواج. فالمرأة في مضارب الرُّحَلْ عالية المكانة, حتى أنها هي التي تسارع بتقديم وعاء اللبن للضيف, ترحيبا به. ونساء الرُّحَلْ لسن كنساء البندر, إذ ينسب أبنائهن إليهن وليس لآبائهم.. كان لديها الكثير من الخواطر التي تنتقل في مجرى الذكريات المرير, الذي تؤرق تدفقاته الحارقة إستقرارها وتقض مضجعها.
تغيرّت حياة بنت أب دفرة إذن.. ولم تعد حياتها في الوادي, هي حياتها ذاتها تلك الحياة التي ألفتها مع قومها الرُّحَلْ منذ نعومة أظفارها, وحتى تفتح جسدها ووعيها على الدنيا, فلم تجد لمداواة الحنين سوى أن تتعلم الغزل والنسج, فكانت تمسك "المترار" بيدها اليمنى, وباليسرى تبرم القطن, وتشده وهي تحرك مترارها في الوقت نفسه. كان الخيط المغزول يتحرك غدوة ورواحا, وشيئا فشيئا يتشكل القطن كرّة من الخيوط الجاهزة لصناعة ثوب أو غطاء ما.
عندما إختفت إبنتها ست الدار, ذلك الإختفاء الغامض. إشتد خوفها على حرّاس العقاب كثيرا, فأخذت تحدث سراج البيت, وتكرر على مسامعه الكلام دون كلل أو ملل إلى أن إستطالت أذنيه, فاستجاب آخيرا لرغبتها, وبعث بحرّاس العقاب إلى خيلانه الرحل, وهكذا خطى حرّاس العقاب خطواته الأولى.
من سلالة حراس العقاب بعد عشرات السنوات سيأتي ود التويم, الذي كان والده التويم أيضا, قد أرسله إلى مضارب الرُّحَلْ, ليتلقى علوم الأولين والآخرين, إلى أن وقع بصره على الصّبية الفاتنة "بنت شيقوق" إبنة أخ جقندي. فيهيم بها حبا. يتزوجها. ويعود بها إلى الوادي ليقيم مع والده التويم ووالدته حميرة. في هذا المناخ إذن إرتجف قلب "بنت شيقوق" عندما لفحه "سموم القبلي", فعصر بنت شيقوق كان عصرا عجيبا إذ كانت نساء زمانها عادة, يعتزلن بيوتهن في القيلولة. بعد أن يكن قد جئن من السوق الصغير, وقد جلبن إحتياجات الحياة المعيشية اليومية. وما أن ينتصف النّهار, حتى يتجمعن في قعدات القهوة يدقن البن ويطلقن البخور, الذي تنطلق معه كل شياطينهن الخبيئة, تنقلن عدوى النميمة والقطيعة, في سماء الوادي فاحش البذاءة.
تلك الحكايا التي تتناول سيرة الفتيات, اللائي يمارسن حبهن في صعوبة وسرِّية, لا تخفى على قعدات القهوة, التي تلوح فيها حياة الوادي, غارقة في الخواطر الملتهبة, والأخرى الباردة, التي تقاوم سموم القبلي, في ذروة إنعقاد جلسات القهوة, حتى أن أحد السلاطين شتمهن في إحدى خطاباته, وأصدر قرارا رسميا, يمنع قعدات القهوة النهارِّية, وإستيراد البن. في هذا الوقت بالذات وفي الجانب الآخر من بندر الوادي, حيث حط الرحل مضاربهم, كانت بنت شيقوق في أوج فتنتها بقدها المارد, الذي إختبأ تحت دثار أسود, غطى جسمها كله, وضم داخله قدّها الملفوف وصدرها المتحفز, وتلك المأكمة التي لا مثيل لأناقتها. والتي أطلقت كل شياطين الجحيم في دماء ود التويم عندما رآها, عندما إنحنت لتدخل خيمة جقندي.
إتسعت عينا ود التويم وكادتا تقفزان من محجريهما, عندما تمرد صدرها وتمادى في شقاوته العابثة الملهمة من المأكمة التي ضاق بها فضاء الخيمة. إنتبهت بت شيقوق لنظراته, التي جردت جسمها من عباءتها الفضفاضة, فسطع وجهها بغموض العذارى الخفي, وبرقت عيناها بجمر المواجد.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يراها فيها, فطلبها من جقندي في الحال. ولم يمض عليه سوى أيام قليلة, حتى كان مع بت شيقوق يتجولان داخل بعضهما البعض في الوادي. كانت قصتهما أقصر وأعمق قصة حب تشهدها مضارب الرحل, أو بندر الوادي الضائع في دهشة التاريخ من مثل هذا النوع من المواجد.
والده التويم ذات نفسه, لم يمر بهكذا قصة حب سريعة وحاسمة كالبرق العبادي, عندما تزوج من والدته حميرّة, التي كانت قد جمعته بها عادة التسكع في الوادي في الأمسيات. إذ تصادف أن حل الرحل وقتها بالوادي وكان يزورهم من وقت لآخر, ثم يمضي في تسكعاته, التي يبدأها من أرض الفجيجة, مرورا "بدبيبة سيف العشر" و"قردود الدليب" و"السهلة أم كركاع" و"دغل الحردان" والقوز "هراد اللهاه" حتى يصل "سندالة الحداد" و"خروعة المجانين" على مشارف جبل كارناسي, ثم يعود ليخلد إلى النوم.
لم يكن يدري أن ثمة عينان متوجدتان, كانتا تتسكعان في مراقبته.. تخترقان حجب الظلام والعجاج, لتصلان حتى داره في "ضهرة الحسكنيت" كلما حل بمضارب الرحل.. كانت تلكما العينان هما عينا حميرّة, التي كانت عندما تنعس في آخر الليل, ترى التويم يتسكع في أحلامها, مضيئا كل الفراغات المظلمة, فتحيا الحكايا القديمة وتزدهر.. تلك الحكايا التي لطالما حكتها لها جدتها. ترى شخوصها. عشاقها. عاشقاتها.. تراهم جميعا يتسكعون في الضوء الشاحب, وربما يهوون هناك حيث مركز الوسن, في غفواتها المؤجلة. وقتها كان قلب التويم ينتفض ولا يدري سببا لذلك, "فيحنس" النّوم. ثم لا يلبث أن يستيقظ مع صياح الديكة, فيتوجه إلى منتهى الوادي, حيث جبل كارناسي يبدأ في إلقاء ضل الضحى الشاحب.
في المرّة الأولى وجدها هناك في أحراش القمبيل والقنا, تراقب طلوع الشمس من خلف جبل كارناسي المهيب بذات المهارة التي يتقصى بها الرحل الأثر. وبذات الدقة التي يكتبون بها لغتهم شديدة الشبه باللغة "المروية الحديثة", فالرحل لا يجمعون بالواو والنون, وليس لديهم واو جماعة, فهم يجمعون بالألف والباء. فالأب هو أصل الحياة, حتى أن المرأة نفسها خرجت منه, لذا هو ليس فردا فهو أيضا أغلبية, إذ أن الرحل كانوا يعتنون كثيرا بإعطاء كل ذي حق حقه سواء كان أنثى أو ذكر.. هذا النوع من الجمع الفريد والبديع تجده حتى في بعض المواضع التي تمر بها قوافلهم من مالحة على طريق الملح, إلى بندر الوادي ك"قوز الكتراب" الذي يقيمون فيه ليوم أو بعض يوم قبل أن يواصلوا ترحالهم..
ولا يتزوج في الرحل إبن العم من بنات عمومته, أو خواله أو قريبته, فهم أمينون على عاداتهم القديمة.. و.. ولم يكن التويم لحظتها يدري أنها تنتظره هو..
كانت جالسة على الصخور حائلة اللون, وحولها الطبيعة بإيقاعات كائناتها المختلفة, تعزف لحن الخلود. المتوحد في إيقاعات أم كيكي الشجية في تهديدها الأزلي لأحزان الوازا المتوترة القلقة.
كان كلما نظر إليها في تلصصاته من بعيد, يشعر بأنها تقف على حافة شيء ما. ويداهمه شعور كالخارج عن سيطرته, سيطرتهما, سيطرتها.. شعور أشبه بزوبعة أو عاصفة تجذبهما إلى مركزها.. و.. وحثيثا حثيثا يحاول مناداتها, كما تحاول هي الأخرى. لكن صوت كليهما كان يخرج مشلولا.. مكتوما.. يغلي, منحبسا في قوقعته الصلدة. يجاهد الخروج دون جدوى. لكن بعد ذلك حدث كل شيء بسرعة مذهلة.. كان الطريق تجاه بعضهما البعض يقصر ويشارف على نهايته.. طريق يعرفانه جيدا فطيفاهما في كل جزء منه.
كانت ما أن تراه حتى تأخذ أنفاسها تعلو وتهبط. جلس قربها, توترت. دفن يدها في كفه, فارتخت أعصابها المشدودة, وتسرب الخدر خرير الجدول, وبدت البرِّية.. كل البرية خافقة كقلبها البكر.
منذها أصبحا يلتقيان هناك. يقتربان ويبتعدان.. يبتعدان ويقتربان, وفي صمت ودون أن ينبث أحدهما بحرف كانا, يقولان كل شيء. تنفجر الزوبعة داخلهما, ويحيطهما العشق بسياج أبيض من النور النّقي, فيشعان مثل ضوء شفاف, ممزوج في دعاش البحر وروائح وأزهار البرِّية العطرة, دون أن يشعرا بأوراق الشجر الإبرية الشائكة, وهي تسقط. تخز الأرض. تحفزهما معا على العبور إلى الضفة الأخرى من الغدير.
عندما تغيب حميرّة يمضي متسكعا –كالعادة- في مضارب الرحل, عله يراها هنا أو هناك. وغالبا يجدها تجلس قرب الموقد في مدخل خيمتها, تحاول إشعال النار الخابية, وهي تردد تعاويذ الرحل فتشتعل كل نيران الأرض داخله دفعة واحدة. ثم يمضي ينتظرها تخرج في الليالي المقمرة, إلى وادي الغزلان.. تجلس قبالة جنقل السلطان. تدس يديها وقدميها في التراب البارد, وتصيخ السمع لشاعر خفي ينشد ذات القصيدة, التي سمعتها طوال حياتها المتنقلة من مكان إلى مكان.. ذات القصيدة التي كانت تنسج خيوط خيمتها المدببة, أينما حل الرحل. تسمعها الآن في وادي الغزلان المشبع برائحة السُّعَات البري.
في الصبيحة الباردة التي قرر فيها أن يتقدم ليطلبها للزواج, وجدها تنتظره على الغدير. كانت راكعة بركبتيها تداعب الماء المنحدر من ينابيع كارناسي الخفيّة.. و كان الماء يحفر تحت ركبتيها الأرض المبتلة بالشجن والمواجد. يتسلل ثيابها. كنفوسها. يدغدغ حواسها الرابية ويتطاول في شقاوته فيمضي بعيدا ولطيفا.. دافئا وحميما.. محملا بأشواق آلاف السنوات الذائبة في حضن المدى. شعرت حميرة لحظتها بالدوار والخدر. فتحت عينيها وبكت. لم يسألها. كان يعرف أنه "لا يعرف" وأنها لا تعرف لماذا تبكي!.
إنتظرته إذن في تلك الصبيحة الباكرة عند الغدير, بعد أن تسلل خفية من خيمتها في مضارب الرحل.. سحبها من يدها وأنطلقا نحو النهر. كان نداء المياه الرائعة والرائقة عند الفجر, يشدهما عميقا. جذابا. يحاصرهما برائحة الطمي وعشبة معونة النيل. سبحا معا قريبا من القيف. ولم يتعمقا كثيرا.
في تلك اللحظات النبوّية الخالدة من الفجر الناعس, كان الشاطيء هادئا وساكنا. لا شيء سوى الثرثرات الهامسة بين المعونة والطمي والماء. كانا كما لو هما شخصان آخران وليس بذاتيهما المالوفتين. عادا أدراجهما بعد أن شرعت خيوط الفجر الأولى تهدد الأفق الضبابي الفسيح بالتبدد. جلسا على القيف يستقبلان خيوط الشمس, تجففهما بهدوء وإتئاد. وضع أنفه في تجويف صدرها يتنسم رائحتها. أغلقت عينيها وأصابعه تتسلل ظهرها, "تدعكه" في رفق. شعرا برجفة شعاع الشمس تدغدغ كيانيهما المتوحدان. فأهتزا كالمجاذيب.
كانت الشمس لحظتها قد بدأت تدفيء كل شيء. وكانا ساخنين جدا, ك"رميضاء دار الريح" في الظهيرات الجافة القاسية اللعينة. أفاقا من حضورهما القوي في الطبيعة البرِّية حولهما, على خطى رجل عجوز. إقترب منهما. وقف قبالتهما. تهشم تراب القيف الهش تحت وطء قدميه. وأخذ يعزف لهما على "أم كيكي" أنغاما" مميزة.. عنهما وعن الطبيعة وعن الناس وعن الأشياء والحب والجمال.. عن الوادي والنهر وخيوط الشمس, تتراقص فيما وهما يثرثران لبعضيهما حول ما جرى في تلك الصبيحة النادرة. نظرا إلى بعضهما دون أن يأبها للنّهر والوادي والنمامين.
وفي الليلة الأولى لزواجهما, تذكرا ذلك. وعندما بكت كانت تعرف هذه المرة لماذا تبكي, فأجابته أنها في المرتين كانت تبكي حبيبا طال إنتظارها له, تتآكلها مخاوف العنوسة, في سنوات التململ بحياء العذارى الرهيب. وكلما هبت رياح القبلي أو الخماسين أو برق البرق العبادي ترسل نداءاتها إليه!!.
كان التويم هو الحبيب المنتظر, الذي ترسل إليه نداءاتها خلل أنفاسها اللاهثة مع عصافير آخر الخريف, أو الطيور المهاجرة عبر الواحات والوديان والصحارى, التي يقطعها الرحل, فتنتشي أنفاس الخماسين وعشبات الوديان وشجيرات الصحارى, عندما يلامس لفحها الغدران والجداول. ويستيقظ مارد الطبيعة الخفي. وتهطل أمطار العِينّة الغزيرة. التي لا يدري سّها أحد. فيفيض النيل, وتحيض النساء, ولا يدري أحد شيئا عن السر المخبأ في جوف الريح والصدى.
أطرق التويم في إرتباك, كعذراء يحاصرها خفر مقيم من غرباء شديدي الجرأة والوقاحة. ثم تماسك. تخلل بأصابعه النحيلة جدائل شعر "حميرّة" الممشط في ضفائر كبيرة وتنهد:
"يا لكل هذا الحب!"
الغدير الذي كانا يلتقيان عنده قبل الزواج, أصبح هو والنّهر قبلتهما المفضلة بعد الزواج. كانا يتسكعان في الوادي كعادتهما. يمضيان إلى النهر أو الغدير. يجلسان على شفته والمياه تحفر تحتهما, فيجن جنون الجدول المجاور. فيرسل خريره المحتج بقوة. ثم يحتد أكثر.. تحمل الريح صوته. تبعثه حيا. مهذبا في أغنيات الشجن والجنون.. تحمله الخماسين إلى مجاهيل دار الريح التي يكون لحظتها على مشارفها. فتلتفت القافلة. كل القافلة تلتفت, ومع القبلي الذي يفيق لتوه من رقدته العميقة, يرسل جقندي تحياته التي تشق الفراغ العريض, في جسارة القبلي عاشق المسافات.
كانا كأنهما يستعيدان قصص الحب العظيمة, التي مرت على الوادي عبر تاريخه ضارب القدم. قصص الحب التي عاشها الأسلاف الذين كانوا يهيمنون بوجودهم الطاغ, على كل مكان يتسكعان فيه, ففي كل شبر من الوادي خطت خطى الأسلاف وتركت أثرها خفية غير مرئية, لكنها حية في ذاكرة الماء والفراغ والزمن والطبيعة.. المكان والشجر.. الناس والحياة...
هذه الذاكرة المتجددة في الحنين.. هذه الذاكرة...
طائر الغرنوق الذي يسترق إليهما النظر الآن, هو حفيد الطائر نفسه الذي كان يختلس النظر بعشق, إلى جمال جدته ست الدار. كأنه يحدق في أفق رحيب من النسائم العليلة.
هو حفيد الطائر نفسه الذي أخذ يبكي ويولول فوق رأس قطع الشك, وهو يرى المطاليق يحاصرونها.. هو حفيد الطائر نفسه الذي كان في الصبيحات النديانة يراقب ست البنات وسوميت, عندما "يفزعان" للحطب لإحياء حلقة تعليم المشردين والأهالي, وعندما ينال منهما التعب ترقدان مستلقيتان على ظهريهما تحت شجرة قمبيل, وقد حسر الهواء الشقي طرف جلبابيهما, عن ساقين بديعتين..
كان يراقبهما كما راقب أجداده جداتهم من بين أغصان القمبيل الكثيفة, وهو يصيخ السمع لأصوات أسلافه.. ولأصوات الشعراء والمغنِّين. الذين يخرجون لحظتها من مجاهيل جبل كارناسي, ويتحلقون حوله, ليضيفو إلى ماضيهم ذكرى جديدة عن المستقبل..
أنه حفيد الطائر نفسه الذي شهد ولادة الشايب الجنزير التقيل تحت "ضل الحرازة أم قد", في ذلك الغسق البعيد, عندما دهم "الطلق" أمه على نحو مباغت في تلك اللحظة, التي غردت فيها العنقاء على نحو غير مألوف, فاجتمع كل الناس دهشين لكل هذا الجمال, الذي لا تنطفيء جذوته ولا تخبو نيرانه.
سبب زواج "أبوبردة" من "مطايب" والدة الجنزير التقيل أن جده "الكشيف" رأى مطايب والدة الجنزير وهي حشيمة.. إن دخلت أو خرجت متقنعة. فجاء إلى إبنه أبي بردة وقال له:
"رأيت في قومنا فتاة لم أرى من هي أكثر حشمة وجمالا منها"
فأخبره أبو بردة أن ليس به أدنى رغبة في الزواج. لكن عندما طالت عزوبيته وخشي عليه والده الكشيف من إنقطاع الذكر. حدثه مرة أخرى. وهكذا تزوجها وحملت منه, فلما ولدت جاءوه ووجدوه "راقدا في ضرا شجرة عند دبة حفير كدنكوة مغتى بقفة من السعف" والمشردين من حوله يبعدون الناس عنه ويقولون أنه "مورود". وعند إصرارهم نهض وتحدث معهم, فأخبروه. فركب لتوه "ماسكاً الدرب", وكانت النساء وقتها قد قد نقلنها من من تحت الحرازة إلى خيمتها.
خرجت النساء. فدخل عليها وأدخل أصبعه في فمه, فنبع منه اللبن بعد أن "ملص جلبابه وتحزم بالفركة القرمصيص وعصر ثدييه حتى درا اللبن فريقه" منه ومكث حتى السبوع وسماه: الجنزير التقيل, وذلك أن أحدا لم يستطع حمله سوى والديه وجده الكشيف.
وعندما كان الجنزير طفلا سأل أبي بردة:
"يا أبي لم أصل إلى حدود العلم, وقد رأيت رؤيا.. أن عندي دلو أنشل به الماء من أعماق التبلدية حدا القوز الوراني وأفرغه في حيضان رملية كثيرة"
فتبسم أبو بردة قائلا:
"أبشر بالخير.. إتسكنت وإتمكنت.. الناس تشيل من علمك وتفضل"
وهكذا قام الجنزير في قومه الرحل مقام جده الكشيف, الذي سمى بالكشيف نظرا لأنه يخبر الناس بما في ضمائرهم, وما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم, والذي عندما دنت وفاته وهو في خيمته الفوقانية قال:
"أنا راحل من هذه الدار"
فظن قومه الرحل أنه رحيل كرحيلهم المعتاد لكن إذا بمنادي ينادي فيهم:
"الكشيف إنتقل"
أنه رحيل كالإقامة, فللكشيف كانت تشد الرحال, وتضرب آباط الإبل وأكبادها, فقد أعطى الروح العظيمة للكشيف القبول التام عند الخاص والعام .
يحكي عنه الشايب جقندي فيما تواتر إليه: أنه كان جسيما فرآه رجل فقال:
"جسامة بلا أكل أو شراب"
فرد عليه الكشيف:
"صنع الروح العظيمة الذي أتقن كل شيء"
كان الكشيف إخيا هديا ورضيا.. يصر سبعة أحجار في طرف جلبابه. يحصي بها كلام الدنيا الذي ينطق به في يومه, وكلما نطق رمى حجرا. في حياته لم تحدث للوادي أو الرحل أي عوجة. كان إذا تبين له أن تيراب بلاد أحد الناس مخلوطا بتيراب ليس لصاحبها لا يأكل من الزّرع.
III
كان السلطان "جبل الحديد" الشقيق الأصغر ل"بادي" رجلا فاضلا, وكانت والدته هي الزوجة الثانية للسلطان "الكرباج" الذي كان قد تزوج من قبل من "بت أبوسكيكين" والدة بادي الشقيق الأكبر للسلطان "جبل الحديد" والتي توفيت بمرض مجهول بعد ولادة بادي مباشرة.
ذات مساء بينما كان الكرباج يتفقد بندر الوادي رأى قوافل الرحل تحط رحالها قريبا من جنقله. إقترب من مضاربهم, ورأى "بت أبي سكيكين", فخفق لها قلبه. فتزوجها. وأقامت في قصره دون أن يفارقها الحنين إلى قومها الرحل, بل إشتد حنينها أكثر بعد ولادة "جبل الحديد" الذي نصبه السلطان "الكرباج" ملكا على الوادي في حياته, فقد كان يحبه كثيرا, ويخشى عليه من غدر أخيه الأكبر بادي, الذي كان منذ طفولته غريب الأطوار.. وكان يرى أنه أحق بالملك لا لأنه البكر فحسب, بل ولكون أن أمه هي الزوجة الكبرى للسلطان, وهي على عكس والدة جبل الحديد, من أهل هذا الوادي وليست من الرحل, الذين كان بادي يرى أنهم أقل شأنا من أهل الوادي من جهة الحسب والنسب, وكتب في ذلك الكثير من الأشعار, التي تهجو الرحل وتمجد شعب الوادي النقي, الذي لم يختلط بأقوام أخرى!..
سيعثر أبوشوتال على هذه الأشعار الركيكة, بعد عشرات السنوات, مدونة على على جُدُر كهف كارناسي, بعد أن تتراجع كل الأصوات حوله: صوت القماري.. حفيف أوراق القمبيل.. خرير الجدول الثرثار.. دمدمة النهر المتواطيء.. وهدير شلالات كارناسي المقدس.. و.. ويصبح الصمت كقشرة رقيقة من السكون, تخدشها الأصوات الهاربة من أغوار تاريخ الرِّق والعبودية, إلى جوف الوادي المتلفع بغباش الفجر, فيشعر بادي لحظتها أنه قد عثر على كنزه الضائع.
كانت غرابة أطوار بادي, لا تتوقف عند حد, يقوده طموحه الأعمى وذكاءه الإجرامي الحاد, إلى فعل أشياء غريبة, ستظل تحكم مسيرة حياة الوادي وشعبه لعشرات السنوات, فهو الذي أحيا إحدى الطوائف السرِّية القديمة, وكونها من جديد. والتي خرج من رحمها المطاليق.
كانت طائفة لم يشهد تاريخ الوادي القريب والبعيد مثلها. فقد تأسست وفقا لأفكار بادي الإباحية الشرِّيرة, التي لا تأبه لهتك الأعراض الجماعي, أمام أعين محارمهم. كما مارست أعمال الدّجل والشعوذّة, وفي الحقيقة كانت من الداخل تنقض عُرّى أفكار الرحل, التي بدأت وقتها. تنمو بين أهالي الوادي. خصوصا بعد أن إستقر الجنزير التقيل وأوقد "تقابة" لا تنطفيء.
وقتها كانت أم السلطان قد مرضت مرضا شديدا, فعزم لها الجنزير التقيل, ولم تشفى فقال له السلطان:
"إن كان ما عافيت أمي قتلتك وقتلت الرحل.. وإن عافيتها زوجتك إبنتي حوشة"
فعزم لها الجنزير مرة أخرى فعوفيت, ولكنه رفض الزواج من إبنة السلطان, وطلب منه أن يزوجها "الإسيد" نوارة المشردين, فوافق السلطان بعد تردد, وبعد أن تزوجها الأسيد, أخذ يمشي إليها بعد الفراغ من حلقة التعليم التي أنشأها المشردون. فمنعته حوشة من ذلك وقالت له:
"إرحل بقراءتك إلى دارنا. القراية التبقى هنا عندنا"
لكن المشردون إمتنعوا وقالوا له:
"عندها الخدّم الحسان.. يمرقن ويدخلن.. يفسدن علينا عقائدنا,نحن لا نضمن أن نهم بهن أو يهمن بنا"
وهكذا تولت قطع الشك وبنت المنا أمر حلقة التعليم. وعندما علم الجنزير التقيل بالأمر ذهب لمقابلة السلطان وسأله:
"يا طويل العمر العندو سراج يوقدو في بيت غيرو يرضى؟"
فأجابه السلطان:
"لا"
فقال الجنزير:
"الإسيد والمشردين سراج الوادي, فليه المطاليق عايزين يعوجوا دربهم عشان يوقدو أماكن تانية, ويتركو البندر في الضلام"
ولم ينتظر رد السلطان. فلحظتها كان قد طار في الهواء وأختفى والسلطان ذاهل.
كان بادي والمطاليق الذين أختارهم بعناية, يقيمون تحت راية "الإسيد" الذي صار منهم تعاليم الروح العظيمة خلف الجنزير, ويقتاتون على مائدة السلطان. بل أنهم حاولوا في بعض الأحيان, إلصاق صفة الروح العظيمة على بعض شياب الرحل لتضليل أهالي الوادي..
عندما إكتشف السلطان الكرباج للمرّة الأولى, وجود هذه الطائفة, التي لم يكن يدري شيئا عمن بعثها ونفخ فيها الحياة. جد في البحث عن مريديها, وأحرق بمساعدة الجنزير التقيل من إستطاع العثور عليه. منذها أخذ المطاليق يدعمون طائفتهم بمزيد من السرِّية.. يكمنون حينا ويظهرون للعلن حينا آخر.. وفقا لتضاؤل نفوذهم, أو مدى سطوتهم, ومتى ما بان لهم ضعف في السلطنة, ينشطون لتفكيك عراها.
عندما أسس بادي في أول عهده هذه الطائفة, بعد أن بلغ الحلم مباشرة. أختار لها دار الريح مركزا, حيث شيد هناك قلعة حصينة, أطلق عليها إسم "الحليلة شوحططت", ثم بدأ بإرسال دعاته من الخواص, الذين إنتقاهم بدقة لنشر دعوته بين عامة الناس في سرِّية تامة, وكان هؤلاء الدعاة يخفون (قناعاتهم الحقيقية) حتى إذا وثقوا في تابعيهم أطلعوهم على الخفايا من أفكارهم, كتساوي الناس في النساء والأموال, وإباحة نكاح المحارم والغلمان وإشاعة اللواط. ولطالما تعرض بعض قادة المطاليق للقتل بسبب هذه الأمور.
بل تذكر إحدى الأحفورات, على جدر كهوف جبل كارناسي, أن أحد قادة المطاليق, يدعى "السخيل" قتل على يد غلامه, الذي كان يدعى "أبو عقيرب". فالسخيل كان قد أسر هذا الغلام في إحدى الغزوات وأستخلصه لنفسه, وجعله على طعامه. وكان أبوعقيرب لا يزال على معتقدات الرحل. يكتمها عن السخيل. فلما رأى الغلام مضايقة السخيل المستمرة له, بأن يفعل به كما يفعل الغلام بأنثى, أكمن في نفسه قتله والتخلص منه, وحانت له الفرصة عندما دخل والسخيل الحمام. وما أن "فنقس" السخيل حتى طعنه أبوعقيرب بسكين, كان يخبئها في عنقه وأجهز عليه, ثم خرج ليخبر أحد قادة المطاليق, يدعى سوار. أن السخيل يريده في الحمام, فلما دخل سوار قتله أبو عقيرب أيضا, وفعل الشيء نفسه مع خمسة من قادة المطاليق, قبل أن يكتشفوا أمره ويقرضوا لحم جسمه بالمقاريض. فقد كان المطاليق في عصورهم المتأخرة, قد أوجبوا قتل الغلام الذي يمتنع عن أن يفعل بسيده ما يفعله بالنساء.
وبهلاك السخيل على يد الغلام أبو عقيرب, وإنقسام السلطة بين أبنائه. خفت قوة المطاليق وتهديدهم للحياة الإجتماعية في وادي الذهب, وأقتصرت أعمالهم على قطع الطريق, وبعض الهجمات الخفيفة لتأمين مصدر عيشهم, إلى أن قام بادي ببعث مجدهم من جديد, وجعل منهم النّواة للمطاليق الجدد, الذين يعيثون فسادا الآن.
وفيما حملت ألواح وأحفورات جبل كارناسي, أن المطاليق كانوا طوال تاريخهم, ينقسمون إلى فرق وجماعات, على الرغم من توزع ولاءاتها فيما بعد, على أبناء بادي. من نساءه العديدات, بعد ست الدار. ومن بعد أحفاد هؤلاء الأبناء, وأحفاد أحفاد أحفاد أحفادهم.
إلا أن طائفة المطاليق في النهاية تبقى موحدة, كمطاليق ينتسبون إلى (عرق نبيل مقدس) هو عرق بادي خلقة وأخلاق! حتى أنه في عهد السلطان "التور الجرِّق" عندما تنامت سلطاتهم وطغيانهم وأكاذيبهم, على الأهالي البسطاء, جرد عليهم "التور الجرق" حملة فانتصروا عليها وحاصروا بندر الوادي, وردموا مجرى العيون التي تغذي النهر عند إلتقاءها به.
لم يتركوا حجرا أو شيئا لم يضعوه في مجرى النهر, ومع ذلك ظل النهر على جريانه ينحدر إليه الماء من منابعه البعيدة, فعمدوا إلى حيلة أخرى, بأن حفروا إلى جوار النهر, نهرا آخر لتغيير مجراه. تتحدر إليه مياه النهر, الذي يشق الوادي إلى قسمين. فوبذلك يعطش الأهالي المحاصرين بالجوع.. الذين عندما لاح لهم أن النهر سيجف وأن حياتهم قد ضاقت, فر منهم من تمكن من الفرار, وأنضم للمطاليق.. ومن لم يستطع أو من أبى تم قتله بطريقة بشعة. ولولا أن تداعت حواضر الصعيد ودار الريح والسافل ودار صباح البعيدة, لنجدة بندر الوادي. لسقط تماما في يد المطاليق, ولربما دانت لهم السلطة المطلقة إلى الأبد.
وتشير الأحفورات –وقتها- أن قائد المطاليق السخيل الذي قتله الغلام أبوعقيرب, كان قد أخبر أتباعه قبل مقتله, بأنه سيصعد إلى السماء. وأنه سيبقى فيها أربعين يوما, وأن أخاه المطلوق "أبوقصيصة" سيحل محله في قيادتهم وعليهم بطاعته.
بث المطاليق أحقادهم في كل منطقة وصلوا إليها. قتلوا أهلها وأستحلوا نساءها, وعاثوا فسادا ليس بعده أو قبله فساد. وحتى الآن لايزال المطاليق ينتظرون عودة السخيل, رغم إنقضاء عشرات السنوات على الموعد المضروب؟!.
كان نظام الإقتصاد في "الحليلة شوحططت", التي أقام فيها بادي قلعته الرهيبة, نظاما عجيبا في بعض أوجهه, إن صح ما نقلته أحفورات كارناسي.. إذ كان المطاليق ينظمون البيع والشراء والأخذ والعطاء, الذي يتم فقط داخل حدود الحليلة شوحططت, بواسطة رصاص في زبيل. حيث تباع لحوم الحيوانات كلها من كلاب وقطط وحمير وبقر وخراف, وغيرها ويوضع رأس الحيوان وجلده قرب لحمه. وينسجون هناك "فوطا" جميلة يصدرونها خارج حدود الحليلة شوحططت. ولإهتمامهم الفائق بإقتصادهم بلغ بهم الأمر, تفقد الشاة إذا ذبحت فيسلمون "الضباحين" اللحم, ليفرقوه على من رسم لهم من أعوانهم, ويدفع بالرأس والأكارع و"الكمونية", إلى العبيد والإماء. ويجز الصوف والشعر من الغنم, ليتم تفريقه على من يغزلونه, ثم يدفع به إلى من ينسجونه عباءات وأكسية. كذلك تفتل منه القرب والروايا والمزاود, وما كان في الجلود يصلح نعالا, يستخدم لهذا الغرض. ثم يجمع كل ذلك في خزائن داخل قلعة بادي الحصينة. كما جمع المطاليق –وقتها- الصبيان في دور أقاموا عليها من يرعاها, ووشموهم حتى لا يختلطون بغيرهم, ونصبوا لهم من يدربهم على ركوب الخيل وفنون الحرب والطعان, فنشأوا لا يعرفون شيئا غير ذلك.
وعندما كانت السلطة في مركز السلطنة, تقوى. كان المطاليق يكثفون من عملياتهم الإنتحارية, والإغتيالات للناشطين في معارضتهم, تحت تأثير تعاطي الحشيش, الذي كانوا يظنون أنه يعطيهم مقدما جرعات من ما ينتظرهم من مباهج في العالم السرمدي الذي ينتظرهم.
كان مركز قيادة المطاليق الذي شيده بادي, بين الجبال الحصينة, التي تحيط بالحليلة شوحططت. في منحنى حدود دار الريح مع الصحراء الكبرى والغابات..
وهو عبارة عن قلعة حصينة بين الأحجار, فيها حديقة كبيرة ملأى بأشجار الفاكهة, وفيها قصور وجداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء, وبنات جميلات يغنين ويرقصن ويعزفن الموسيقى.
عندما أكمل بادي تشييد هذه القلعة, على هذا النحو. منع دخول أي شخص إليها, فكان دخولها مقصورا فقط على من تقرر أنهم في أعلا مراتب المطاليق, وكان بادي يشرف على هذا الأمر بنفسه, إذ يدخلهم في مجموعات, ثم "يشربهم" الحشيش ثم يتركهم نياما! ثم بعد ذلك كان يأمر بأن يحملوا ويوضعوا في الحديقة, وعندما يستيقظون فإنهم سوف يعتقدون أنهم في تلك الحديقة السرمدية, التي لم يرها أحد وحفلت بها حكايا الجنزير التقيل, وبعد أن يشبعون شهواتهم من المباهج المؤقتة, كان يتم تخديرهم مرة أخرى, فينامون عندها يأمر بحملهم وإخراجهم من الحديقة.. ثم يرسلون إليه, فيركعون عند قدميه ويسألهم:
"أين كنتم؟"
فيجيبون:
"في الحديقة السرمدية, التي حفلت بها حكايا الرحل, ولم يرها أحد."
بعدها يرسلهم لإغتيال أعداءه.. فمن نجا منهم يعيده مرة أخرى بنفس الطريقة, إلى الحديقة ومن قتل أثناء أداءه لمهمته, تأتي مخلوقات الروح العظيمة النورانية بقيادة الغارنوق, وتحمله إلى الحديقة السرمدية, ليستمتع بمباهجها- كما يعتقد- ومن فشل يقتله بادي بنفسه.. كما فعل مع أولئك المطاليق الذين فشلوا في إغتيال سلطان مملكة الجوار في السافل عند منحدر النهر.
ربما أن بادي, جاء بكل هذا الشر من ذكريات طفولته, التي لطالما سفك فيها دماء الحيوانات الأليفة, وأعتدى فيها حتى على شقيقه وأقرانه, حتى سال منهم "الدم ركب".
عشق بادي السحر, والبحث في المعتقدات البائدة التي كان يسافر طلبا لها إلى دار الريح, وما وراء الصحراء الكبرى. ولا يتوقف عند حدود تمبكتو أو كانم . يغذ المسير شهورا وربما ينفق ما يزيد عن العام حتى يعود محملا بالمخطوطات وألواح الخشب, في أحمال قافلة أو قافلتين. في كل مرة. كما ربطته علاقات عميقة "بمعراقيي" دار الريح "المطاميس" الذين برعوا في أعمال "الدغمسة" و"اللغوسة الغميسة". وعندما توفي والده السلطان الكرباج وفكر في الإنقلاب على أخيه الأصغر جبل الحديد, لم يكن ثمة شيء بقادر على إيقافه سوى إدراكه أن الرحل الاقوياء.. "العارفين" بالأسرار الخفية, يحمون إبن أختهم من كل شر, لذا قرر أن يجهز نفسه جيدا قبل الإنقلاب من جديد على جبل الحديد, خاصة بعد أن فشل إنقلابه الأول فشلا زريعا. وهكذا أخذ يجمع الشباب الذين لفظتهم "خشوم بيوتهم" وأصبحوا مطاليقا "لا تالي ولا والي لهم". وأخذ يدربهم في سرِّية تامة, ويعدهم لليوم الموعود. وبالفعل تحول المطاليق إلى قوة ضاربة.
كثيرا ما حدثته نفسه أن وقت الحاجة إليها في مواجهة مباشرة ليس ببعيد.
وفي ذلك اليوم البعيد, الذي إلتقى فيه ست الدار عندما كان قادما من إحدى رحلاته إلى دار الريح, حيث تكمن قوته الأساسية هناك. كانت ست الدار بت سراج البيت, تعشق الفتى عمسيب, الذي كان لا يكبرها كثيرا كبادي, الذي إختطفها في ذلك اليوم المشؤوم.. وقتها كان الشايب الجنزير التقيل قد أخذ يعمل بمساعدة بت ود المنا على مساعدة السلطان جبل الحديد والعنتيل, على إعادة الأمن والهدوء والسكينة إلى الوادي, بعدما إنطلقت عصابات المطاليق تنهب الناس بقوة السلاح, وتحرق القرى والفرقان والزروع, وتقطع الطريق حتى على الناس الهاربين.
آخر مرة رأى فيها عمسيب ست الدار قبل أن تختفي إلى الأبد, دون أن يعلم أحد عنها شيئا. كان لقاء سريعا في وادي الغزلان. قبلها كانت قد مرت عدة أيام, لم يرها فيها. فتناهبه القلق والخوف. وعندما جاءت, أخذ يتكلم وحده طوال الوقت, وهي تبتسم في صمت دون أن تقول شيئا, فتآكلته الدهشة.
سألها عن حالها المتبدل فأخبرته عن ذلك اليوم, عندما إفترقا آخر مرة, ومضت. وعندما رقدت رأته في أحلامها كالعادة, لكن كان حلما مختلفا هذه المرّة. ليس ككل أحلامها الماضية. كانت قد رقدت وهي تشعر بتعب "ودوخة" وتقلصات خفيفة في أحشائها, عندما رأته يمسح على بطنها في الحلم,
"كان وجهك معكرا. ودمعة كبيرة تتلألأ على جفنيك"
"هذا نزير شؤم!"
إرتفع حاجباها في دهشة وواصلت:
"فوجئت في الصباح, بقطرات من الدّم على فراشي. كانت القطرات تنقط كماء "القربة".. "كنقاع الزير", عندما قطعت جدتي خلوتي"
"وماذا قالت لك ؟"
"في البدء لم تقل شيئا. مضت تتحسسني بريبة, تحاول إكتشاف ما يجري في المنابع البعيدة, ثم أرتفع حاجباها في جزع:
"أنت حامل؟من هو؟.."...
.."قطرات الدم الدافئة تأتي من هناك.. من الطبقات الداخلية للرّحم, تنقط تروي الأرض الجدباء"
"هذا يحدث أحيانا في حالات الخصب"
"قالت جدتي مغلوبة على أمرها"
"لذلك غبت عني"
"كنت بحاجة لأن أخلو بنفسي"
"ولم تحدثي جدتك عن ذلك الحلم"
"أي حلم؟"
"عندما كنت أتحسس بطنك والدمعة .."...
"لا"
"يجب أن تحدثيها فالجدات يعرفن الكثير من الأشياء الغامضة .."...
كان جمال ست الدار كما ظل عمسيب يشعر به دائما, من جمال الوادي. وجمال الوادي من جمالها. كلاهما كانا يتماهيان في لوحة الجمال البكر, للطبيعة الساحرة.. في شذى الورد والزّهر البري ورائحة السعات والسِّعدة, وكلاهما يبعث تأملهما على الخدر اللذيذ, والغياب في الوجد اللا نهائي. فست الدار هي إبنة الطبيعة.. طبيعة الوادي, كلما رأت غديرا يشدها الماء للركوع.. تتركه يتسربها هادئا ومجنونا, إلى أن إختطفها بادي في ذلك المساء الحزين, وظلت لأيام تنام ملتفة على نفسها, مكوّمة. تسند رأسها الصغير بمعصم, وتجفف دموعها بالمعصم الآخر. تحلم في الأسر.. بين جدران قصر بادي.. تحلم بدفقة الضوء تتسلل دارها, وتنعكس على أجفانها نصف المفتوحة, وهي بين النعاس والوسن.. تحلم بعمسيب يأخذهاعلى صهوة جواد أبيض, بعيدا عن هذا القصر.. بعيدا عن هذا الوادي, إلى أن تحسس بادي يوما بطنها, بعد أن لحظ إنتفاخها.
ظلت ست الدار تزور عمسيب في أحلامه كل ليلة. تجلس في مدخل وادي الغزلان, من جهة تلة "شقيق الفار" حيث ظل ينتظرها لأيام, قبل قبل أن يقرر البحث عنها في كل مكان. كان طيفها يلازمه. وجهها الشاحب يتورد عند رؤيته. ترتفع حرارة جسمها, وفي صدره هو الآخر, يعتلج شعور متواصل بالتهيج. دائما يشعل طيفها كل النيران والحرائق الخبيئة, التي لا تنطفيء, فيود لو يركض, ويدخل بيوت الوادي بيتا بيتا, ويقبل كل العذّارى.. طيفها يقوده إلى مكانهما المفضل:
الغدير عند وادي الغزلان..
يرخي زراعيه على كتفها فتتساءل داخلها: ترى هل غشي عمسيب أنداية تام زينو ؟ إذ يبدو كالمخمور وهو بين آن وآخر يتحسس عصاه التي إنغرست على شفة الجدول ذو العشب الندي.. طيفها يطارده محمولا على أصداء الأغنيات الحزينة.. الآتية من بعيد بمواويل الشجن. المحملة بالأسى والضياع.. ضياعها.. ضياعه.. ضياع الوادي الغارق في المواجد والتوجدات المجهضة.. الضياع كقدر أزلي لمن لا يعرفون قيمة الحياة..
وعندما غرس بادي في تلك الظهيرة شوتاله في قلبها تماما, كان عمسيب قد شعر بطعنة في قلبه ومرض مرضا شديدا, وعندما تماثل للشفاء وسمح له أهله بالبحث عنها, يمم وجهه شطر دار الريح, دون جدوى. وعندما عاد. كان يخرج في العشيات إلى وادي الغزلان.. يبكي إلى أن ينال منه التعب. وبمرور الوقت كف عن البحث عنها وأنضم للمشردين..
لكنها ظلت في الليالي المقمرة تخرج من بين أعماق الوادي.. تعزف على وتر الأشجان أناشيدها الحزينة, فيبكي عمسيب وجده وعذاباته, ويتعرّى تحت ضوء القمر.. يتنفس بعمق, ويزفر عن صدره الشجن والحنين.. زفرات الاسى والعذاب, الذي سكنه منذ إختفائها الغامض..
يزفر حتى لا يتبق فيه سوى نفس ضئيل كالرمق, يدخره لأيام قادمات خاليات من كل غوّاية. أيام تجيء فيها ست الدار من غياهب المجهول.. تمشي على رمل الوادي.. تركع على الغدير العكر فيصفو, وحين تغني تصيخ عصافير الجنّة الملوّنة السمع.
ويمر بعض لوقت قبل أن يشعر المشردون جميعهم, بالخدر يتسلل رؤوسهم.. ويزحف بطيئا ليغرقهم في حلم منسي, فيشعرون بنفسهم كحمامات قطع الشك.. لحظتها فقط يضمون أحزنهم إلى بعضها البعض.. وفراقهم إلى بعضه البعض, ووجدهم يرتعش إرتعاشة واحدة.
IIII
من على قمة جبل كارناسي يمكنك أن ترى السحب المنخفضة, وهي تتعلق بالأفق. وينابيع المياه العذّبة وهي "تنز" من تحت الأرض, وتجري بعيدا, لتمتزج بالبحر الملوّن أقصى دار صباح..
من قمة جبل كارناسي, تتبدى السماء والأرض والبحر الملوّن والنّهر, في فوضى عاصفة.. يتخلق فيها الوادي في الأزل.
يقال أن سبب عظمة الشاب الجميل كارناسي, دعوة صالحة من أمه "صُبح الهنّا", وذلك أن عندها قدحا فيه دهنا مقرفا, فرقه كارناسي في الأرض. وعندما جاءت "صُبح" ووجدت دهنها يجري على الأرض جداولا, قالت:
"أللهم أجعل وليدي كارناسي وتدا من أوتاد الأرض"
فسمعت قائلا في الهواء يقول:
"آمين"
أو.. لأن والده "مضوي" حفيد الشايب أبو قرين البارك, وجده منشغلا بجمع التراب, لسد جداول إنكسرت, فقال له:
"كلنا إنشغلنا بالدنيا"
ودعا له بقريحة صادقة فجعل الروح العظيمة البركة فيه, وخلّده. وأنتقلت هذه البركة إلى الجبل, الذي حلّت به روحه.
على قمة جبل كارناسي في ذلك الزمان البعيد, ظهرت البيضة التي صنعها الروح العظيمة من مزيج الريح والشهوة. عندما "فقعت" هذه البيضة, خرج منها طائر الغارنوق, الذي أطلق صيحة, رددت أصداءها فضاءات الوادي الرازح في العتمّة, فأحالت ليله إلى نهار. تبدد الظلام, الذي نشأ الوادي في أكنافه لعشرات السنوات. منذها بدأت تظهر واضحة للعيان, تلك الشلالات التي تتدفق من عيون خفية, لا أحد يعرف "مبتداها من منتهاها", والتي تمضي في أخاديد عبر الشقوق "تجلبغ" حينا وحينا آخر "تخر" متحدرة, حتى تصل مجاري الوديان والسهول, التي تحيط بوادي الذهب, وتتدفق بعيدا بعيدا.. إلى حدود دار الريح وتتخطاها إلى الجوار, حيث بقايا محيط المياه الواسع, الذي دفنته رمال الصحراء الكبرى, في زمان سحيق. عندما غضب الروح العظيمة على الرحل.
جبل كارناسي ظل شامخا وغامضا وصامدا كالطود, عبر الأزمان السحيقة. لم تهزمه ريح ولا أنواء. لم يهزمه مطر ولا حرارة شمس, ولا برودة شتاء.. حتى تلك البرودة, التي تحرق العشب والشجر!.
فيضانات النّهر, والسيول العظيمة المنحدرة من إمتدادات الصحراء الكبرى, في دار الريح, حتى سهول دار صباح. تلك السيول التي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.