عندما كانت اللغة الانكليزية «وصفاً» والعالمية «عملياً» تحتل مكانة مرموقة في بلادنا، وخاصة في مجال التعليم ووسط المتعلمين والمثقفين، كان الأدب الانكليزي يصارع الأدب العربي وكثيراً ما يصرعه، وكان للروائي الكبير تشارلس ديكنز مكانة خاصة في الأدب الانكليزي بمدارسنا. وفي هذا العام «2012م»، تحتفل بريطانيا ويحتفل معها العالم بالعيد المئوي الثاني لأبرز روائيي العصر الفكتوري «تشارلز جون فام ديكنز»، ولعل كل الأجيال التي تلقت العلم في السلم التعليمي القديم «الوسطى والثانوية القديمة» تأثر أغلب أفرادها بأدب دكنز المفعم بالإنسانية، فقد كانت هناك روايات كثيرة مقررة علينا في مدارسنا، وتؤثر في وجداننا وتفكيرنا، ولعل أشهرها «ديفيد كوبر فيلد» و«اوليفر تويست» و«الآمال الكبيرة» و«أنشودة عيد الميلاد». وقد أثر فينا أدب ديكنز الى درجة أننا كنا نرتاد مظان هذا الأدب خارج إطار ما هو مقرر لنا، ومن ذلك مطولته الروائية الموسومة بعنوان (The Pickwich Club)، وتجدر الإشارة الى أن هذه الملحمة الروائية صدرت بالعربية منذ أمد بعيد عن المؤسسة القومية للنشر والتوزيع «القاهرة»، بترجمة عباس حافظ ومراجعة محمد بدران. ومعلوم أن أصل الرواية كان مجرد رسومات كاريكاتورية من ريشة رسام، كان وقتها ذائع الصيت، وطلب من ديكنز أن يقوم بالتعليق على رسوماته التى كان ينشرها في إحدي الصحف، واتخذ ديكنز من تلك الرسومات منحى روائياً، فكان إن اجتذبت الكتابات القراء أكثر من الرسومات، ويقال إن ذلك الرسام المنكود قد أخذته الموجدة الى حيث وضع حداً لحياته بالانتحار! ومن المعروف أن ديكنز كان ينشر رواياته في الصحف على شكل مسلسلات، وكثيراً ما كان يتوقف عن اكمال الرواية ليتجه وجهة أخرى إذا ما شعر بملل من جانب القراء، ويظهر ذلك بوضوح في مطولته «بيكويك»، ولذلك فإن الكثير من النقاد قد أخذ عليه عدم اتساق وانسجام شخصيات وأحداث تلك الرواية الفكاهية الهجائية. ومعروف أن ديكنز قضى طفولة بائسة واضطر للعمل، وهو في الثانية عشرة من عمره لعشر ساعات في اليوم، في مكان ملوث ترتاده الحشرات والفئران، ويقوم بتغليف علب دهان الأحذية، وقد دفعه الى ذلك سجن والده بسجن المدنيين، وقاده ذلك الى انتقاد عمالة الأطفال والكثير من الظواهر السالبة الأخرى المتعلقة بانتهاك حقوق الأطفال، ولعل ذلك مما جعل بعض النقاد يقارنونه بالروائي الروسي الفذ مكسيم غوركي. والحقيقة أن ديكنز، وعلى الرغم من شهرته الواسعة كان مظلوماً الى حد ما من قبل الكُتَّاب والنقاد القدامى، ولم ينل حقه إلا في مطلع القرن الماضي، وسبق أن اتهمته الكاتبة فرجينيا وولف بما يشبه الحذلقة، متمثلة في أنه يبالغ في الأحداث، ويلجأ بشخصياته الى الحلول السهلة عندما تقع هذه الشخصيات في المآزق، أما الروائي العبقري تولستوي فيرى فيه عبقرية فذة في تصوير الشخصيات، ويوافقه على ذلك الروائي الكبير جورج أورويل. وفي مئويته الثانية الراهنة احتفى به البريطانيون أيما احتفاء، فأقيمت المعارض والندوات، وقدمت البحوث عن حياته وأعماله، وأقيم معرض خاص به في متحف لندن، كما اهتم التلفزيون البريطاني بعرض العديد من أعماله التي تناولها المخرجون السينمائيون عبر السنين، بدءاً بالمخرج البريطاني المعروف ديفيد لين الذي قدم للسينما «اوليفر تويست» و«الآمال الكبيرة»، وفي عام 1968م حصل فيلم «اوليفر»، من اخراج كارول ريد على ست جوائز أوسكار.