كنت قد ذكرت في المقال السابق أن كل مشاكل وأزمات العالم الثالث مردها إلى عنصرين، هذان العنصران هما: أساس نهضة شعوب ودول العالم الأول العنصر الأول هو وضع واحترام ترتيب الأولويات وإنفاذ الأولويات المحددة بترتيباتها بكل تجرد ودقة وحسم حتى لو أدى ذلك إلى سقوط ثوابت يتمترس فيها بعض المتشددين دون وعي ومراعاة للمتغيرات الخطيرة التي تحرك وبالضرورة تلك الثوابت من المتغيرات المهمة والخطيرة، على الصعيد الداخلي اكتمال خلق العقل الجماعي للمجتمع بكل قطاعاته العامة العادية والخاصة الحساسة، وهذا ظهر جلياً في التحرك العفوي الشعبي الهادر دون إشارة من حكومة أو معارضة والخروج النبيل للآلاف في الشوارع عند استرداد هجليج، هذا الخروج الجماعي العفوي بقدر ما هو مكسب للحكومة شكلاً فهو أيضاً مؤشر مزعج لها مضموناً، إذ أنه يعني أن العقل الجماعي قد تكون وخرج الناس إلى الشوارع بكل وطنية سامية رفضاً جماعياً للعدوان الباغي المدعوم خارجياً على أرض سودانية وهو بالأحرى يجب أن يكون غير مريح للحكومة من ناحية المضمون، إذ أن هذا الخروج العفوي الجماعي الهادر قد يحدث مرة أخرى متى ما تضافرت عوامل إثارة العقل الجماعي بأسباب خلاف حماية الأرض والعرض بتدخلات خارجية كما حدث في هجليج من العوامل المثيرة للعقل الجماعي بعد فريضة الدفاع عن الأرض والعرض هو استحالة التوفيق بين الدخل والصرف الضروري للحياة البسيطة للغالبية العظمى من أفراد الشعب، وهذه الاستحالة تكتمل بثبات دخل الفرد مع التصاعد المستمر في أسعار السلع الضامنة للحياة والخدمات المكملة للحياة والأدوية المنقذة للحياة، كل علوم وعلماء الاجتماع يحذرون من أن تدفع بالفرد حتى يصل بالحالة النفسية الخطيرة- لا شيء يفقد- أو لم يتبقَ له شيء ليفقده Nothing to lose. العنصر الثاني للنهوض هو إعمال العلم ونظرياته المؤكدة عملياً لوضع الخطط والدراسات الموقوتة لفترات طويلة متوسطة وقصيرة وفق قوانين الإحصاء لقراءة المستقبل من بيانات ومعلومات وأرقام الماضي والحاضر ليكون ذلك بديلاً للمعالجات العشوائية والتجارية الفاشلة. القرار الذي يصدر عبر دراسات وأرقام علمية حسابية لا يقبل الجدل والتردد المفضي إلى الفوضى والغموض والارتباك، القرار القوي المنطقي المقبول ولو بعد حين هو واحد زايد واحد يساوي اثنين. ظل قرار زيادة المحروقات يتردد منذ أكثر من خمسة أشهر متأرجحاً بين البرلمان والمنابر والإعلام والأجهزة السياسية الحاكمة حتى اتخذتها المعارضة قاعدة جديدة لإسقاط النظام، وهذا يشبه تماماً تردد وتلكؤ بني إسرائيل حين أمروا بذبح بقرة، ماطلوا وسألوا في (لياقة) جعلتهم يذبحون أعز بقرة عندهم في حين أنهم كان لهم أن يذبحوا أي بقرة حتى لو مريضة إذا لم يترددوا، الآن نحن دخلنا في دوامة كان من الممكن حسمها وتطبيقها قبل خمسة أشهر، سياسة بنك السودان نحو سعر الجنيه السوداني حتى اليوم تراوح مكانها منذ قرابة الشهر دون أن يصدر حتى اليوم قرار رسمي ومنشورات للبنوك واضحة تحدد السعر وأوجه التعامل في النقد الأجنبي، كل هذا التردد والضبابية المدمرة مردها إلى شيء واحد بسيط، كان للسودان دخل ثابت سهل الحساب وكافٍ لمقابلة تسيير نشاط الدولة، الآن زال هذا الدخل المحسوب الثابت وجاءت بديلاً عنه دخول وأمنيات وكرامات غير ثابتة وغير محسوبة وغير مضمونة، إذن كيف يمكن لأي كائن التحرك أو العدو أو القفز في رمال متحركة وقاعدة متأرجحة(لا يفعلها إلا بهلوان). الآن حان تماماً ومتأخراً إعمال العلم والعقل محل العشوائية والعاطفة، ذلك بتحديد أولويات جديدة عملية منقذة للسودان، واجبة التنفيذ، مع إقصاء كامل وتجاهل لكل غارق عمداً أو جهلاً في ثوابت لا تواكب الخطر الماثل، نحن الآن لسنا مواجهين بعداء عالمي سافر، بل نحن فقدنا مؤازرة ودعم كل دول أفريقيا جنوب الصحراء لأسباب عنصرية تعمقت في عقول وعواطف قادة وشعوب تلك الدول بصورة يصعب إن لم تستحيل إزالتها، ودونكم على سبيل المثال تصريحات رئيس ليبريا ورئيسة ملاوي وزير خارجية زامبيا وقبلها تصريحات جاكوب زوما رئيس جنوب أفريقيا وموسفيني رئيس يوغندا، هذا العداء السافر الأفريقي يجعلنا في موقف ضعيف أمام دولتي روسيا والصين وفقدنا الكثير من دعمهما لنا وكان ذلك واضحاً في صدور القرار 2046 بالإجماع، روسيا والصين لهما مصالح أكبر من مصالحهما معنا مع باقي دول أفريقيا، فلا يتوقع أن تقف أي منهما في مواجهة الاتحاد الأفريقي. ثابت واحد فقط يجب أن يسود بكل حسم وقناعات وشجاعة وهو خلق علاقة جديدة متينة تجب كل مرارات الماضي مع الحركة الشعبية وحكومة جنوب السودان محكومة في إطار اتفاقيات تكامل اقتصادية اجتماعية خدمية كما حدث في الماضي مع مصر وليبيا، وهذا الأمر مرتبط تماماً بقوة وشجاعة وحسن قيادة الأخ الرئيس عمر البشير كما فعل قبله الرئيس عبود رحمه الله عندما ذكر في بيانه الأول أن من أولوياته إزالة الجفوة المفتعلة مع مصر خاصة في مسألة حلايب والسد العالي، وفعلها أيضاً الرئيس نميري رحمه الله عندما عقد اتفاقيات التكامل مع مصر وليبيا وخلق علاقة خاصة قوية مع الراحلين عبد الناصر والقذافي. نحن الآن في حاجة ماسة إلى مثل هذا القرار من الرئيس البشير بإزالة الجفوة المفتعلة مع الدولة الوليدة في جنوب السودان، وحينها سيجد دعم ومؤازرة الملايين وخروجهم الهادر في الخرطوم وجوبا دعماً له ومتمسكين به في قيادة السودان والخروج به من هذا المطب الخطير، مجرد هذا الإعلان الموجه إلى قيادات التفاوض في البلدين والمفرح للشعبين في الدولتين سوف تتم به إعادة ضخ البترول من الشمال، خلق الحدود الآمنة، وقف الحرب في جنوب كردفان، إزالة التوتر في النيل الأزرق، وبالتالي إبطال كامل لكل القنابل الموقوتة في القرار 2046 وبه سينام الأخ الرئيس ملء جفونه وتدب الراحة في جسده المنهك بهموم الوطن والمواطنين، وبذلك يحق له أن يقول لنا: الآن لا أملك ما أفقده I HAVE NOTHING TO LOSE ونقول له لن نجعلك تفقد شيئاً.. والله الموفق