تفيض شاشات الفضائيات هذه الأيام بوجوه نراها لأول مرة وبأصوات لم نسمعها من قبل من كل مشارق الأرض ومغاربها هولندا هولويود وارسو الدوحةدبي فانكوفر فرجينيا واشنطن.. يتحدثون حديثاً واحداً هو انتظام الشعب السودان في تظاهرات مستمرة بغرض إسقاط النظام ويحددون جغرافياً أمكنة تلك التظاهرات التي لم نرها نحن سكان هذه المدن الثائرة.. فمن أين يا ترى يستمدون هذه المعلومات وكيف يتيسر لهم رؤية هذه التظاهرات من خارج السودان ولم نرها نحن في السودان بهذا الاتساع والتمدد والتدفق والهتافات؟! أهي مظاهرات سرية أم من نوع تلك التي لا ترى بالعين المجردة؟ ومن أين نبعت هذه الوجوه غير المألوفة لنا التي لم نرها في معتقلات أونقرأ لها حرفاً، ولا دراية لنا بتاريخها النضالي ووقع حفرها في ميادين الشعب؟ لأول مرة في تاريخ الشعوب والثورات تقع ثورة غير مرئية تنقلها شاشات مرئية ويعلق عليها مجهولون، أهي ثورة بوسائل وأهداف واضحة أم ثورة (ضد مجهول)؟! مايحيّرني تماماً كإعلامي عملت في هذا الحقل مدة 35 عاماً هو كيف يتقدم المنبر على ساحة الحدث، بمعنى أن القناة التي تتخذ موقعها من دبي أو فرجينيا أو لندن تكون على إلمام بتفاصيل غير مرئية على أمكنة الحدث فيما لا يشاهد من تعنيهم الرسالة هذه الأحداث عياناً؟!! هل يعتقد من يقف وراء هذا الترتيب غير المسبوق أن هذا الزيت صالح لإشعال الحريق؟ لا أظن لأنه بمجرد أن يكتشف الناس هذه الأكذوبة لن يضيفوا أنفسهم إليها ولن يكونوا لها وقوداً.. ثم أن الثورات تتمدد ولا تنكمش وتكون يومية وعلى مدارات الساعات والدقائق والثواني ولا تكون كل أسبوع لأنها تجدد نفسها وتدفعها بدوافع اللحظة وليس بالانتظار لأسبوع. الانتهازيون الشرفاء الذين يطلون علينا كل يوم من الحرة والبي بي سي والعربية ولا علاقة لهم بزيادة الأسعار ولا بالمعاناة هم الأجدر بالثورة عليهم لأنهم خارج محيط المعاناة وخارج قدرات الإضافة وخارج النص والتاريخ أيضاً. هم مجموعة من محبطي الأماني المطعونين باليأس الساعين لحل أمنياتهم الشخصية عن طريق الوهم وخير دليل على توهمهم هو إيهام الفضائيات بأن هنالك ثورة في السودان تقدمت وتدفقت وتجاوزت وبلغت منحى إستراتيجياً مكنها من تجاوز الكتلة الحرجة فأصبحت في تقدم وإتساع ولن ترجع. كل هذا لم يحدث وهم يعرفون ذلك تماماً فما الداعي إذن لكل هذه الفنتازيا؟