نادراً ما نجد شيخاً يلوم نفسه ، إذا انجرف في طريق الصبينة والشباب ، ولعل الخوف هنا سببه الهروب من محطة الموت الحتمية في نهاية العمر . ولكن الملاحظ أن هذه الصحوة أو الاعتراف دائماً يأتي بعد صدمة الضعف الجسدي ، قد تظل الشهوة مشبوبة ولكن آلة الذكورة قد فقدت فعاليتها!! وقد يظل الاعتراف مجرد موقف مؤقت لتأنيب الضمير أو جلد للذات كما تقرأ كثيراً في تجربة الشاعر العربي الكبير نزار قباني مثل: تركت في عرض الصحراء قافلتي وجئت أبحث في عينيك عن ذاتي أو في مثل موقف الشاعر السوداني العباسي حين يقول: يا بنت ذي العشرين والأيام مقبلة ماذا تريدين من موعود خمسين كل ذلك نوع من الاعتراف عهدناه ولكن تعال نقف على نوع فريد من الاعتراف الصادق لدى الشاعر اللبناني مصطفي الجوز : في قصيدة بعنوان (العشق شعر غريب) ترجم عن توبه وصدق غير مسبوقين : ورغم أن في النفس شيء من حكاية الصدق في تجارب الشعراء مع النساء إلا إننا نستطيع أن نقول إنه استطاع أن يضع معادلاً عقلياً مقنعاً . وهو يحن للتأمل هرباً من اللذة الجنسية التي لم يعد قادراً عليها جلد ذاته وقسي على نفسه وعلى تطلعاته الجسدية. وهو يقوم بهذا يبدأ أولاً مشككاً في نجاح تجربة الاعتراف هذه. وهل يرمم عقل فيّ أو جسد وقد نما العشب في أوراق ميلادي إياك عزيزي القارئ أن تعتقد أن عملية الهروب من إغراءات الغواني والبنات الصغيرات كانت بهذه السهولة . فلكي يقاوم شهواته قام بعملية جد صعبة لإعادة صياغة رغباته وأهوائه وأولوياته :ورحت أعجبن ذاتي ثم أسكبها في قالب واواخي بين أضدادي قصته هذه يحكيها أيضاً بطريقة أخرى وهى أنه رغم الشيخوخة التي بدأت تدب في عظمه يعاني من بقايا وسامة عالقة ببشرته وقوامه ، هذه الوسامة الباقية جمعت حوله مجموعة من البنات ولكنه عندما يحس بضعفه وعدم قدرته في الوفاء برغباتهن يصيبه الغيظ وينعي شبابه ولكنه يجد سلواه في حلول منطقية في غاية من البلاغة: يقول في سبب إعجاب الفتيات به: وقد تغر الغواني طلعتي وبدى ومسحة من ربيع مزهر شاد فيبتسمن بغنج لي وفي أمل كطالب في بخارى نخل بغداد يقول أن الفتيات تطلبن منه شيئاً مستحيلاً كمن يطلب أشجار النخيل في منطقة لا تنبت فيها كمنطقة(بخارى) في شمال إيران. ولكنه يغتاظ من هذا الطلب لأنه يحسسه بشيخوخته ، كبر سنه وضعف آلة الشهوة لديه!! يغيظني أن شكلي كاذب فأرى نعزاً وتحت ردائي رتل آماد يقول : نعم أنه يملك بقية شهوة أو قدرة على ممارسة اللذة ولكن ليست تلك الطاقة التي تكفي فتاة ناهده صغيرة عطشى. وبي بقية نار قد تراودني لكنها ليس تشفي الناهد الصادي يزيد في القول : لاحظ للمشيب من طقوس اللذة هذه إلا قُبله لا فائدة منها أو رعشة تتم بالكاد. كل هذا المعني يسكبه في هذه الأبيات:جهد المشيب إذا يهوى مداعبة وقُبلة من مهب الريح ، بالكاد وآهة من رصيد الأمس باقية ورعشة تتلوى فوق ألباد إذن ماذا يفعل هذا الشيخ المتصابي الذي رغم تقدم سنه يطارد الفتيات والغواني؟ عليه أن يعود الى رشده: مالي وللعشق والأيام تأمرني أن يستريح فؤادي بعد إجهاد؟ لكي لا يفقد منطقه ويصبح شكله مضحكاً وهو يجري خلف النساء، عليه أن يجد إجابة لهذه الأسئلة: هل اشتكي السهد والأفلاك ساهرة أم أخبر الناس عن إخلاف ميعاد؟ وما يقول سوادى للبياض إذا شغلت بالغيد عن أحلام أولادي؟ إن السنين لاصفاد تكبلنا ومن لروح إذا غلت بأصفاد؟ يسأل نفسه ليزجرها : كيف يترك أسرته وأولاده وأحلامهم ثم يجري خلف أحلام الشباب! وربما في البيت الأخير(من لروح إذا غلت بأصفاد) وجد ضالته ، فبين المعاني تلوح حقيقة كبرى ربما كأن الإحساس بها هو مبعث الصدق في تجربته وهي: أن الحرية الحقيقية ليست في تلك الرعشة الهاربة التي تعتري الإنسان في غمرة الشهوة ، بل هي التحليق بأجنحة الروح والمتعة المعرفية. الانعتاق في الكون الواسع لا يتم أوله إلا بترشيد الغرائز وبرمجتها ، أما اللذة الحسية لم تخلق إلا كحافز للاندفاع بحركة الحياة من خلال الإشباع والنسل، ولكن المشكلة تبدأ عند الاستغراق فيها والتوقف عندها .. لهذا لم يترك أمر الشهوة الجنسية مطلقة ولا نقول في القانون والأخلاق فحسب ، بل الجسد الإنساني نفسه. والدليل أن بقاء الجمال مؤقت في النساء والطاقة محدودة في الرجال. هذا الشاعر وهو يختم قصيدته يشير الى هذا المعني: والشعر عشق لأحلام وإنشاد المعني هنا أن العشق فيه تجاوز وإفراط حتى للشباب ناهيك عن الشيوخ . وهنا مبعث الغرابة والغموض ، لأنه رغم ذلك مطلوب بشدة ، وهو في نهاية الأمر معاني ضائعة في أعماق الإيقاعات والكلمات. الخلاصة: في هذه التجربة الفنية في تلك الأسئلة التي تركها الشاعر في أذهاننا : هل ينعي الشاعر شبابه أم انه يستيقظ مع حقائق الشيخوخة؟ الفهم هنا أنه خلط شيء من هذا بذاك ولكنه في نهاية المطاف وضع خارطة للعجائز الحائرين ليكبح جماح اللذة المهلكة فيهم ، ولكن هل يتعظ بالشعر من لم توعظه صدمات الحياة!! وهذا شاعر آخر عاش هموم الشيخوخة في الشباب، من شدة ذعره من العجز والشيخوخة بكي حاله وهو في مرحلة الشباب، ونسي أن يستمتع بزهرة شبابه، وهو في مرحلة الخطبة يبث مخاوفه لمخطوبته: أخاف إذا وقعت على فراشي وطالت علتي لا تصحبيني أخاف إذا فقدت المال عندي تميلي للخصام وتهجريني ولكن تطمئنه الفتاة أنها ستكون معه في كل الأحوال: معاذ الله أفعل ما تقول ولو قطعت شمالي مع يميني واكتم سر زوجي في ضميري واقنع باليسير وما يليني إذا عاشرتني وعرفت طبعي ستعلم أنني خير القريني هكذا أراد أن يعيش صبياً أبد الدهر دون أن يتوقع عجزاً، ونسي أن المرأة نفسها تشيخ، ودواعي الحب تتغير بتقدم السنوات ، فلا تبقى دائماً في القوة الجسدية والمال، العاطفة تتعمق مع خمود الشهوة، وتبقى رابطة المصير المشترك، وإرادة البقاء.وهناك أمر آخر هو أن المرأة نفسها تشيخ، بل وقبل الرجل هذه الشيوخة يسجل مراحلها أديب في كتاب(جواهر الأدب)هكذا: المرأة في سن العاشرة: حور عين ، وفي سن العشرين: نزهة الناظرين ، أما في سن الثلاثين: جنة نعيم ،وفي الأربعين: شحم ولبن في الخمسين بنات وبنين ، ولكن في سنوات ما بعد الخمسين يذهب الجمال ويبدأ الجفاف. في سن الستين : ما بها فائدة للسائلين، والمرأة في السبعين: عجوز في الغابرين في التسعين : شيطان رجيم وفي المئة: من أصحاب الجحيم !! ولكن مهلاً عزيزي القارئ .. هكذا تكون المرأة في نظر العجوز المتصابي ولكنها في الحقيقة بعد الخمسين يتبدل حسنها ولا يدرك جمالها إلا من زاد النظر ، فهي في الستين، وتد البيت، وفي السبعين حبوبة، وما أجمل الحبوبة، قيمة الجمال فيها، أنها إنسانة تجسد الخير الخالص، ولا أدري كيف تكتمل صورة الأسرة وهي نواة الخير في الأوطان دون امرأة فوق الخمسين؟!!