في يوم خروجها من أيام الحداد الشرعي اتخذت سعاد قرار العودة إلى البيت الكبير.. إنها الآن تعول أسرة صغيرة.. مضى الزوج إلى الرفيق الأعلى في حادث حركة.. فكرتها تقوم على إيجار بيتها الأنيق والعودة لبيت والدها الذي رحل قبل عشرين عاماً.. ما يؤرقها شقيقها مكي.. هذا الشقيق حالة خاصة لديه أكثر من لقب.. في الحلة يدعونه سراً بمكي المجنون.. في المنطقة الصناعية عندما تتعطل عربة ويستعصى علاجها فأغلب الظن أن الطبيب المداوي سيكون مكي مرسيدس.. ناس البيت كانوا يسمونه السيد تبركاً بالسيد المكي رجل الصوفية المعروف. بدأت سعاد تتذكر رحلة الأيام.. قبل سنوات طويلة كان مكي طالباً بكلية الهندسة بمعهد الكليات التكنلوجية.. في السنة الأولى والثانية قاد الدفعة بأكملها.. في منتصف سنة التخرج اتخذ قراراً غريباً.. أصر على عدم مواصلة الدراسة.. انقطع عن الناس في ذات الغرفة الجانبية التي مازال يستغلها حتى الآن.. لا أحد على وجه الدقة يدرك السبب.. الفقراء أخبروا والدته حاجة رقية بأن العين أصابت فلذة كبدها.. موظفة بالكلية أكدت أن مكي ضحية حب خاسر.. زملاؤه اعتبروها مجرد «دبرسة» وتزول وأن دفعتهم سيعود إلى مقاعد الدراسة. بعد سنوات من الاعتكاف أصبح مكي رمزاً معروفاً.. لحيته المسدلة بإهمال باتت دلالة على أنه خارج الشبكة.. بعد وفاة الوالدة اضطر مكي لأن يخرج إلى الحياة.. مضى إلى المنطقة الصناعية وهنالك صنع اسماً مقروناً بالجنون والعبقرية.. المشكلة أن مكي كان يعتقد جازماً أنه صحيح معافى وبقية الناس في جنون.. كل حياته تستند على منطق.. ترك الدراسة حينما تأكد أنها لن تضيف له شيئاً.. عاقر الخمر والمخدرات باعتبارهما هدنة في حياة صاخبة وضاجة.. اختار أن يعيش وحيداً لأن في الاختلاط مشكلات. عادت سعاد إلى البيت القديم.. بدأت تنفض غبار السنين من الجدران.. فشلت الأسرة في تأجير المنزل.. لا أحد يفضل جاراً مجنوناً.. بدأت تحذر ولديها من خالهما المجنون.. ركزت جهدها على ابنها المراهق طارق.. خطتها اختلفت مع مازن الصغير ذي السبع سنوات.. جعلته يخاف من مكي المجنون.. أكثر من مرة كان الصغير يصرخ في جوف الليل بسبب طيف من خاله المجنون. فجأة انتبه مكي المجنون أن مازن ابن اخته يشبهه في الملامح..أحد زملائه في المنطقة نبهه إلى هذه الملاحظة.. بات عندما يعود كل مساء يجلب لابن أخته لفافة صغيرة.. حيناً تكون باسطة من محلات الخواجة.. ومرات قطعة دجاجة مشوية.. المهم ألاّ يأتي خالي الوفاض.. يعتلي مكي الجدار الفاصل قبل أن يغيب مع الخمر و يمنح اللفافة إلى أخته. التوقع جعل الصغير ينتظر الخال أمام الباب.. ابتسامة ثم إلفة وتعود وأخيراً بعض الشوق المشوب بالخوف.. بدأ مازن الصغير يتسلل إلى وكر الخال.. يطلب منه أحياناً أن يساعده في استذكار الدروس.. الخال بدأ يتأخر في مصاحبة الكأس حتى ينصرف الصغير.. أسئلة محرجة من طفل شديد الذكاء تأخذ مجراها في مجلس الأنس .. لماذا تبدو متسخاً ياخالو.. أين أطفالك..لماذا يخاف منك الناس؟ الأسئلة البريئة تصنع ثورة في دواخل المجنون.. في أول يوم في رمضان يولد مكي من جديد.. يحلق لحيته الكثة ويفرش «برش» أمام الدار ويتصدق على الناس بابتسامة وبجواره الطبيب الصغير مازن.