وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوراق شخصية .. بقلم: سلمى الشيخ سلامة
نشر في سودانيل يوم 07 - 02 - 2009

أمي تهبك الامان حين تدخل الي باحة روحها ، وبيتها في ذاك البيت الكبير الذي ضمنا لامد ليس بالطويل ...
وداعة تكسو محياها ، طيبة ممزوجة بالعصب والدم فيها ، ملامحها تشبه ملامح كل أم عرفتها ، وكل خالة احببتها ، وكل عمة تودك ابنا لاخيها ، تحس انك تعرف امي منذ الازل ، حتي ان كانت المرة الاولي التي تلتقيها ، وقارها يجيئ ناحيتك ، يصاحبك ، تحس إلفته ، ولا تود مفارقته ، تسألك أمي دائما سؤالها المفضل
انت من وين يا ولدي ، أو يمكنك تأنيث السؤال
تجيبها ، تتسع الإبتسامة لتكشف عن نضارة الشلوخ الستة التي تشدك الي ملامح الوجه الطفولي البرئ الساكنة اليه الطفولة في غير ما عنت ، رغم تجاوزها الستين ، مع ذلك تحسها تلك البريئة المكسوة بذاك المحيا ، لها قامة فارعة ، لونها اسمر ، عيناها واسعتان ، بيضاوان كسريرتها ، فمها دقيق لاتنتظمه اي سن الآن ، لكن حديثها لا يجعلك تفكر سوي بحديثها الشهي الملئ بالحكمة ، والقصص التي تجيد حكاياتها ، بطريقة لا تحس معها بالملل ، قصص من هنا ومن هناك ، حفظتها علي مر الزمن ، من الحياة ومن التجارب التي عركتها ، والكتب التي ما توقفت عن قراءتها ، تجدها لكل مقام مقال ، ولكل حدث حديث ، لديها المقدرة علي تحريك الاحداث والصور في مخيلتك كمخرج بارع يعرف كيف يصطاد مشاهده ، في حضرتها تحس انك داخل الي متن عريق من متون كليلة ودمنة ، او رواية كتبها جابريل جارثيا ماركيز ، لا فرق فمن يحكي هي امي والحديث أخاذ ، تحكي لك عن تجربتها في المدرسة أربعينيات القرن العشرين ، أيام كانت تلميذة في المدرسة الوسطي ، في ام درمان ، كأن الحدث ما يزال طازجا ، وكأن امدرمان الاميرية ما تزال علي حالها ذاك ، أو كأن الانجليز لم يبارحوا بقوامهم العسكري والمدني قابضين علي مدارات الحياة بعد ، بكل خطوط تماسها ، وانفلاتاتها ، كأن مسز ماتيلدا ، بيننا ، تدخن بشراهة تصفها امي ، وكيف حال لون الوسطي والسبابة من اصابعها الي لون أصفر غامق ، وكيف انها كانت ( تولع السجارة بالتانية) ليس لانها مولعة بالتدخين ، بل لانها مولعة بالتفاصيل ، ، ثم تعرج بك الي حصص التدبير المنزلي ، وكيف انها تعلمت الحياكة( الخياطة) بسرعة البرق ، واحبت ذلك الفعل ، حاكت امي كل ملابسنا في الصبا الباكر ، حين لم نكن نعرف دروب الموضات والخياطة ، ( من مرايل النوم في الطفولة الي الحفاضات ، الي الفساتين لاحقا ، ولكم زهونا بها بين أقراننا )اعرف انها كانت تسهر الليالي ساعة نأوي للنوم ، لتحيك الطواقي والفوط ، والملاءات لتبيعها وتكمل ما نقص من مصروف البيت ،كل هذا تعلمته من مسز فريتوال
تعيش امي علي ماضيها البراق ، يرف علي ذاكرتها رفيف الحمام ، كانها وهي تحكي لك ،تبكي علي مفارقة ذلك الفضاء لتغدو امنا ، حينها تحس بوجه خبيئ قد انكشف لك ، كانت تتاوه في صمت وتردد :
مدارسنا زمان ما زي مدارسكم هسي ، شتان ، ما بين دي وديك ، لمن كملت رابعة وسطي ، كنا قرينا لغاية ريدر سيكس ، المدارس ذاتا كانت هيبة ، ندخل المدرسة في الصباح الساعة سته ، نقوم من الصباح ، ننضف البيت ، ونسوي البنقدر عليهو ، لانهم بقولو مشيتنا للمدرسة دي ما في ليها داعي ، عشان نسد الباب دا ، بنسوي الدايرنو مننا وزيادة لانهم شايفين المدارس دي حقت النصاري وبس ، ولو ما خالي امين ما كان لقيت اللقيتو من التعليم دا ، كان بدفع لي مصاريف المدرسة ، وبشجعني ، لغاية ما وصلت سنه رابعة وامتحنت للثانوي ، وجبت مجموع بدخلني الثانوي ، الوكت داك كان معاي ثريا امبابي ، وسعاد الفاتح ، واختها ، ، لكين البركةفيكم ، لانه خالي امين الوكت داك نقلوه الجنوب ، ومافي زول بهمو ان مشيت المدرسة ولا ما مشيت ، المهم ، عرسوني لي ابوكن )
كانت امي الابنة الوحيدة وسط اخوتها الذكور ، حكت لي يوم ( ساقوها لبيت الشلوخ ) وذلك ايضا حدث في غياب راعيها خالها امين ، الذي كان من ضمن المناهضين للشلوخ ، خاصة بعد أن فعلوا ما فعلوا بامي ، فالدمامل ملات وجهها ، والحمي كادت ان تفتك بها ، لولا رعاية الله لها ، لكن ملامحها الجميلة سرعان ما انستني ما احسسته من حزن لحظة ان حكت لي بما اصابها ، فهي اجمل الامهات في نظري
تزوجت عقب امتحان اللجنة مباشرة كانت في الرابعة عشر من عمرها ، وكعادة الاهل كان الزوج ابن العم ، وانجبتنا تلك الام المتفوقة ، فجئنا محاولين اتمام ما انقطع لدنها ، نكابد ونكابر .
كنت الثالثة بين اخوتي الذكور ، والبنت الاولي ، ازعم انها لم تكن فرحة بي ، لا لسبب ، ولم يهلل احد لمولدي ، ومما زاد ذلك الزعم عندي كبرا ، انني خرجت عليلة ، وكان هذا مدعاة لتهبني امي لامها ، حدثتني انها كانت موقنة من موتي ، قالت لامها وهي تهبني اياها :
ان ماتت الحمد لله ، وان عاشت ، بتك ، ربيها زي ما عاوزة
غادرت اذن عطبرة حيث تمت ولادتي الي ام درمان .
كانت امي كالانبياء ، فلم اسمعها تشكو قط ، بل احيانا كانت تقول لنا : امشوا كلموا حاجة فاطمة الداية
ونتساءل لماذا؟ فتقول : خلاص ،حيكون عندكم اخو جديد ، لم تشكو فقرنا ، ولا من مرض الا بالدرجة التي تستدعي إحضار الطبيب ، ومازالت تكره
( الحكما والويات ) علي حد قولها
من جانبه والدي ، كان كمساريا في القطارات ، في السكة الحديد ، مربوع القامة ، أسمر شديد السمرة ، لدرجة السواد ، ملامحه دقيقة لا تخفي وسامة ، ان لم يكن جمالا ، له ابتسامة لم ار نظيرا لها لجمالها وروعتها برق يخلب مشعا حين يبتسم ، ونادرا ما يحدث باتجاهنا ، وباتجاهي علي وجه الدقة
علي صهوة القطار امضي ردحا من الزمان ، زارعا المسافة من حلفا الي واو ، ومن الابيض الي خشم القربة ، مرورا بالقضارف ، وعطبرة ، رحلات كانت تاخذه عنا لايام طويلة ، لكنه في الابيض استقر نوعا
وظل بها حتي نزوله المعاش .
هنا في الابيض كان له برنامج مختلف ، ثابت ، يبدأ في الصباح عند السادسة صباحا حين يخرج باتجاه العمل فى المحطة ، يعود للافطار ، ثم بعد الظهيرة ، يبقي في البيت حتي قبيل المغرب بقليل ، يخرج لصلاة الغرب ، لا يعود الا في التاسعة
طوال هذه المدة كانت امي هي من ترعانا ، بكل ما تحوي الرعاية من معني ، من المذاكرة الي العشاء ، الي سرد حكايات ما قبل النوم التي نستحلفها ونحن كبار ان تحكي لنا ، رغم علمنا التام بكل ما تحكي ،
ذاك الزمان بدأت فيه علاقتي الحقيقية باسرتي .....
بدا لي المكان غريبا ، الاسرة نفسها كفكرة ، كانت كيان مختلف ، والد ، ام ، مختلفان عن الذين عشت معهم من قبل ، أصوات اطفال تموء في الليل ، او تبكي ، ضاحكة احيانا باكية اخري ، متشاحنة ، متراضية، لم يدخل الاطفال قاموسي من قبل ، كل من حولي كانوا كبارا ، رجالا علي وجه الدقة ،
، هم اخوة امي ، من جانبهم لم يدخروا وسعا لاغدو مثلهم ، ملابسهم وطريقة كلامهم ، اتفاعل مع الاحداث علي نحو صبياني ، لا انوثة فيه حتي الشتائم كانت من وحي قاموسهم ، اصفر بالالحان مثلما يفعلون ، اصفر كما يصفر الصبية لمناداة احدهم بوضع اليد في الفم ، امشي مشيهم ، كل شيئ مثلما كانوا يفعلون ، من جانبها جدتي ، لم يكن ما افعله من تصرفات امرا خلافيا ، كان يعنيها فقط ان تصون الامانة
كان اسمي بين اهلي ( محمد ولد) وارد ذلك لتسمية جاءتني من احد اصدقاء خؤولتي كنت اناديه (نصرة ) وعلق به ذلك الاسم حتي الآن ولم يتركوا شاردة ولا واردة من فنون الصبية الا وعلموني اياها حتي تشجيع فرق الدرجة الثانية لكرة القدم في دار الرياضة في ام درمان ، فخالي فخري كان مولعا بفرق الدرجة الثانية ، يصحبني معه اليها وصار ذلك الفعل جزءا من نسيجي الكيميائي ، نشأت اذن وفي نسيجي ذاك الحب للرياضة بكل فروعها ،
( مؤخرا بت اشجع كرة القدم الامريكية ، والبيسبول ، عدا عن السلة ، والتنس وحتي الجولف بعد دخول تايجر وود الي رحابه كاول اسود يحوز البطولة ) بل غدوت محررا رياضيا في ( التسعينات ) في جريدة الاتحادي في القاهرة من العام 1993 الي ان تولي الزميل ديدي تحرير الصفحة عام 1996، وحدث ان جاء ذات يوم احد اعضاء مجلس الادارة في الجريدة متسائلا عن هوية المحرر الرياضي ، جاء غاضبا من بعض تعليق كتبته ، سأل عن المحرر الرياضي فقالوا له : سلمي
ضحك وردد قوله : أخونا سلمي ؟ ما تقولوا طيب ، انت القلت الهلال بقي ما نافع ؟
وبات الاسم المفضل له في مناداتي
فالهلال كان فريقي المفضل ، والذي احس بالانتماء له وفي كل مكان كان اسم الهلال يرد تجدني مشجعة له ومن حبي للهلال كنت اعلق الالوان الزرقاء في اي مكان يتسع لذلك ، وما زلت احن الي تلك الايام حين كان الهلال هلالا ،وكانت كرة القدم لعبة تحس انك المسؤول عن مسيرها ، لا ترضي لها هزيمة ابدا
ذات يوم تعرضت تعرضت لهزيمة من نوع آخر ، هكذا احسستها ، عدت من المدرسة بوجه شاحب كان فستاني يحمل نذيرا ما ، ملون بالوان الانوثة التي لن تفارقني ، لا اعرف الي متي ، مدت لي جدتي يدها حانية ، ورقيقة ، أدخلتني حضنها ، لبثت طويلا ،لا اود الفكاك ، ساقتني الي الحمام ، امرتني بغسل جسدي كله ، خرجت من الحمام حزينة ، هونت علي ، قبل ان اخرج مدت الي ببعض اللفافات وامرتني ان اضعها بكيفية محددة ، كنت مطيعة وخائفة في الآن نفسه ، بكيت ، لا اعرف لماذا ؟ قادتني الي حيث تضع الغلال في مخزنها ملات كفيها بحبات من الذرة وضعت حملها علي كفي ، وامرتنى ان اضعه علي طرف ثوبي ، ملات كفها ايضا بعدد من البقول ، وربطتها في ( صرة ) مدت الي بها وامرتني ان احفظها ،
لكني لا اعرف اين هي الآن ؟ ثم تتالت الاوامر : تلبسي الطرحة ، مافي قعاد مع الاولاد وانا مافي ، ما في طلوع للشارع سبب بلا سبب ، مافي لعب بلي تاني مع الاولاد ، ما في مرقة الا معاي ، سامعه؟ بقيتي مرة خلاص ....
عدت امراة ، استدرت واستدار الزمان ، جسد ونهود كنت استغرب نموها ، تغيرت الاشياء بناظرى ، لكنني لم امارس مع ذلك اي شان انثوي وحتي الآن ، فلم ادعك وجهي بمستحضرات كيميائية ، للتجميل ،
لم اسعي الي تبييض لون بشرتي السوداء خوفا من الاصابة التي حلت باحدي قريبات امي ، فقد حال لونها الي لون آخر غير الذي كانته، واصبحت برصاء؟
اعود الآن الي الي رحم اسرتي الحقيقية ، امي بطيبتها وسماحتها تفعل كل ما بوسعها لتظل سارية البيت مرفوعة ، ان يظل كل شئ كما يجب ان يكون ، ان ناكل ونشرب ولا يتعطل مسير احد باتجاه المدرسة ، كنا نسمعها وهي تبكي في الليل بعض الاحيان ، لكن ذلك البكاء يغادر في الصباح حين نجدها قد انهت حلب الغنم وبدأت طقس الشاي ، تعده لنا حتي لا نتاخر عن مواقيت المدرسة ، نراها حزينة لكنها لا تبوح لنا ، تظل صامتة كعادتها ، لا تشكو ابدا كقديسة لا تود مفارقة ديرها ، ها لك يا امي لو عرفنا مقدارك ، لو عرف ايا منا ما قدمته لنا من تضحية لما نام ساعة ولا كف عن تدليلك الدلال الذي تستحقينه ، لكم كنتي عصية علي الانكسار حتي نظل اقوياء بك ايتها الام العظيمة التي ما بخلت علينا بشيئ هنيئا لك بكل ما فعلت ، من جانبه ابي كان نادرا ما يظل معنا في البيت لا يبقي الا في حال كان مريضا وذلك امر نادر الحدوث ، يخرج دائما عند العصر لاداء صلاة المغرب ولا يعود الا بعد العشاء ، يكون الصغار غارقين في النوم ، والكبار يتناومون خوفا ، لانه في بعض الاحيان لا نعرف لماذا يتصرف معنا علي ذلك النحو الغريب ، فكنا نلجا للتناوم ، لا نتحدث اليه الا نادرا ، ومن جانبه لا يفعل، لم كن علي علاقة حميمة به ، كأنه لا يعنينا في شيئ ، لم اكن علي نحو خاص علي وداد معه ، كان يضربني وكثيرا ، احيانا بدون ابداء السبب ، لا يكلمني الا لحظة السؤال عن ضبط المؤشر في اذاعة لندن ، كنت اطير فرحا لانه تحدث معي ، لم يكن التلفزيون حتي منتصف السبعينات من ضمن المقتنيات في البيت ولم يدخل الينا الا بعد ان جلبته إدارة السكة الحديد ووزعته علي موظفيها ، فالراديو كان وسيطنا الترفيهي الوحيد ، كان لدي راديو خاص بي يهمني ان اكون الي جوار (توصيلة ) في البيت ايا كان موقعها ، المهم ان يظل الراديو مفتوحا ، وان استمع الي الاذاعات ، لا يهم ايها ، بقدرما يهم ان استمع ، لذلك كانت الاذاعة احد وسائط الاعلام التي احبها وما ازال الي الآن ، اول راديو اقتنيه كان لونه اصفر اهدانى اياه خالي محي الدين الذي كان يعمل في السعودية ، ، كنت تجدني استمع الي مونتكارلو واحيانا لندن ، وصوت امريكا ، خاصة البرامج الغنائية التي كان يقدمها عبد الرحمن زياد ، لم اكن اميل للغناء العربي باي حال وحتي الآن ، مهما كانت حيويته
كنت استمع للغناء الغربي والمحلي والهندي ، في الصباح كنت استمع للتلاوة من راديو امدرمان خاصة بصوت المقرئ عوض عمر ، وارد ذلك لدراستي في الخلوة ، كنت امشي اليها مع الصبيان في سني ( خلوة الشيخ البدوي ) نتأرجح في اثناء القراءة يمنة ويسرة ، وكان الفقيه يضربنا لابسط الاخطاء بلا هوادة لا فرق لديه بين انثي وذكر وكنت الانثى الوحيدة ، احيانا يضربنا
( الفلقة) يمددنا الي الارض واضعا عودا محنيا الي اقدامنا لتثبيتها ، ولذلك السبب لم تدعني امي نفيسة اكمل القرآن في الخلوة ، رغم متعتنا يوم الخميس بما كنا نحمله من اطعمة لختم الجزء ، كل واحد منا كان يحمل ( بستلته) المحشوة (بالبليلة )يضعها الفكي الي (صينية ) كبيرة
او صحن كبير ، نتدافع اليها متهافتين ، لكنه كان يضربنا حتي تعلمنا ان نكون ( اولادناس ) وناكل بادب
خرجت من الخلوة الي الروضة ، فضاءات مختلفة ، في الروضة كانت مدرستنا ( ست وهيبة ) سمراء داكنة اللون ،قصيرة القامة ، خداها
( مشلخان ) شلوخ لامعة ، تلبس (طرحة) وفستان قصير ، لم اكن قد بلغت سن المدرسة بعد ، لكنني كنت احفظ اجزاء من القرآن ولدي من ثم ذخيرة كنت اتباهي بها علي اقراني الذين كنت الوحيدة بينهم التي درست الخلوة ، احببت الروضة لان ست وهيبة لم تكن تضربنا ، وتوفر لنا بعض ادوات الترفيه التي تخرجنا عن عالم الواقع كل يوم خميس ، ثمة شبان كانوا يجيئون الينا يطلبون منا ان نغلق النوافذ ويسدلون الاغطية علي النوافذ حتي يعم الظلام الذي لم نكن نخافه ، ويجرون جهازا للسينما يحوي افلام كارتونية كنا نستمتع بمشاهدتها وننتظر يوم الخميس بفارق الصبر ، أو كان يزورنا احيانا (عم خضرالحاوي ) عارضا هوايته امامنا مقابل قرش او اثنين ، يخيفنا ما يعرضه لكننا مندفعون باتجاهه .
حل اليوم الاول لي في المدرسة كنت قد بدات مرحلة جديدة ، ودخلت مكانا جديدا علي ، فهنا لا فقيه يضربنا الفلقة ولا سينما بعد الظهر يوم الخميس ، ولا فصول صغيرة كالتي كانت لدي ست وهيبة ، فصل كبير يضم عددا كبيرا من الفتيات في مثل سني ، انضباط ، دخول الي الفصل وفق ميقات وخروج منضبط ايضا ، اليوم فيه يبدأ بجرس وينتهي ايضا بما بدأ به ، زي مدرسي موحد ، مقاعد خشبية وادراج ، شنطة مملوءة بالكتب ، والكراسات والاقلام ، افطار تلفه امي نفيسة في ورق الجريدة ، زمزمية للماء ، ، فصل معلقة الي جدرانه الصور الايضاحية نخرج من الفصل اثناء الدرس لنكتب الي الارض الارقام والحروف ، كانت تلك هي افضل اللحظات الي قلبي ، وافضلها تماما حصة الحكايات التي تطلب منا المدرسة ان نجلس الي اعلي الادراج ، وتطلب الينا الصمت لتحكي القصة ، نطيعها في صمت ، وتبدأ في سرد الحكاية ، كنت احيانا اوجه المدرسة الي السرد ، لان امي نفيسة لم تحكها هكذا او حبوبة عائشة لم تقلها هكذا
فيعرضني ذلك للتوبيخ تارة والعقاب بالضرب تارة اخري ، البنات كن يسالنني من اين لي بمعرفة الحكايات التي ترويها المدرسة ؟ ويسالنني ان احكي لهن بدلا عن المدرسة ، كنت ازهو بذلك لان رصيدي كان عاليا من حكايات حبوبة عائشة وامي نفيسة وزينباية التي كانت تجئ مع (خالتي مريم ) من الضعين وهي فتاة من فتيات الرزيقات ، تظل تحكي لي حكايات لم اسمع بها من قبل ، كانت تحكي لي عن (الامير الاصبع )، و(اضان دحش ) حكايات تلهب الخيال ، ولم اسمع بها حتي الآن سوي منها ، خيال ملتهب ، وروح تواقة للمزيد ، فعلي ايامنا لم يكن التلفزيون قد صادر المتعة بعد ، متعة الحكي والسرد، ولا كانت الحياة ترزح تحت وطاة المعيشة واللهث التي تراها الان ، نساء قانعات بما كتب لهن بلا طموح يذكر همهن مواءمة الحياة الي بعضها لتسير كما كتب لها ، وسد لما عجز الزوج عن سده من ثغرات . الرجال من جانبهم كانوا كما وصفهم الاستاذ حمدنا الله عبدالقادر في مسلسله الشهير
( خطوبة سهير ) كانوا كالساعات ، يخرجون في الصباح الي اشغالهم ويعودون ما بعد الظهيرة يتغدون بغداء معتاد ، يشبه ما سبقه في اليوم الفائت ، لا يختلف الا بحلول ضيف ، او يهل غداء جماعي للاسرة في مناسبة ما لتنضاف المكرونة او الارز والمحشي والكفته، لم اكن تستهويني المعارف في امر الطبخ ، وفنونه ، لان جدتي كانت لا تودني ان افعل ، تابي علي ذلك خوف ان تندلق الي جسدي ما يحرقه ، مع ذلك كاجراء من اجراءات العناد التي جبلت عليها كنت افعل في غفلة منها ، بغرض ان اثبت لاقراني انني لست (دلوعة ) كما يصفنني دائما ، ويتحدينني ، لكن كان ثمة امر آخر يشدني اليه ، كنت في السنة الثانية من المرحلة الابتدائية ، وكنت اتحداهن ان يقرأن ما اقرأ من كتب ، ومجلات ، ( ميكي وسوبرمان والوطواط ) التي سرعان ما مللتها ، فلجأت (لسرقة ) ما هو اكبر من ذلك ، من خالي حميد ، ولم تنقطع تلك السرقة الا بعد ان سافرت الي الابيض حيث مكتبة والدي قبل ذلك كان رحيل جدتي ليس بالامر الهين علي ،فلقد ادخلني رحيلها الي دوامة من القلق والسؤال ، كيف اغادر الي موطن غير الذي عرفته ؟ ملاعب الصبا ، الدافوري مع العيال في الحوش ؟ البلي ، نط الحبل ؟ الحوش ، حيث الجدات يتانغمن في العصريات للخروج؟ يتقاسمن اجرة التاكسي من نقود لففنها الي اطراف اثوابهن ، يستمعن بنهم الي نشرة الثامنة اوالعاشرة صباحا ، كانما يتوقعن من يموت قبل موته ؟ يتنادين لحضور ( الدافنه ) هذا في شجرة ماحي بك ، وذاك في الكاملين ، وآخر في العزوزاب ، او حي مكي ، او حي السوق ، او القطينه؟ كيف لي ان اتخلي عن كل ذلك الارث وامضي الي حيث اجهل؟
كنت احيانا اسافر صحبة امي نفيسة الي الاماكن التي لم اكن لازورها لو لا جدتي (الكاملين القطينة )، او القضارف لمعاودة امي سكينة واولادها ( لم اكن انادي امي باسمها الا بعد وفاة جدتي امي نفيسة ) هناك تعرفت الي حياة جديدة في القضارف تعرفت الي الاستماع للغناء السوداني لاول مرة عبر جهاز التسجيل
الذي كان يشتغل (بالريل ) فلم يكن الكاسيت قد ظهر بعد ، منصف الستينات ، لم اكن قد دخلت المدرسة بعد ، حين يكون والدي موجودا ، فهو من يدير الجهاز كنا نستمع الي خليل فرح وابراهيم الكاشف وصلاح ابن البادية ، ومحمد وردي ، وابراهيم عبدالجليل ، في العصر ، اما يوم الجمعة في الصباح فكان الراديو الكبير الموضوع الي تربيزة عالية كنا نستمع منه الي حقيبة الفن وما يطلبه المستمعون ، وهو كما اذكر كان يدار ببطارية كبيرة نوعا ما ويحرص والدي ان لا يجعله دائرا لامد طويل لانه كان يخاف علي البطارية ، كل هذه الاسباب جعلت الراديو احد اهم اصدقائي لاحقا فكان يتبعني اينما حللت ، في الحمام ، في المطبخ بعد ان صار الطبخ الزاميا بعد حلولي مع اسرتي في الابيض ، وحتي حين دخلت المستشفي كان احد زواري ، فبعد ان افقت من المخدر بعد عملية جراحية سالت عنه ، مما اضحك كل من كانوا حولي ...
تلك اول مرة ادخل فيها الي المستشفي كمريضة لا بد من اجراء استئصال للزائدة الدودية عندي ، عادة لا اهتم بزيارة الطبيب مهما كان مرضي اتاحت لي تلك الايام ما لم تتحه لي كل الحياة في ذلك الوقت ، اول ايامي الاربعة في المستشفي ، كان الوقت ليلا ، دخل العنبر الطويل الذي يتسع لعدد كبير من النساء ، الجميع كانوا نياما ، وحدي كنت ارقب العالم من حولي ، جارتي لم تكن قد نامت بعد ، فلقد كانت تعاني من الالم جراء بتر ساقيها اثر حادث القطار قبل عدة ايام من دخولي ، كانت تتاوه ، كنت خائفة من الدخول الي غرفة العمليات في الصباح ، دخل الطبيب الي العنبر ، بدا كمن يسرق في الليل الحالك ، سال عن مريضة محددة كان اسمها ام جمعة وصفت له الممرضة مكانها ، لم يشأ ان ينتظر ، داهم السرير دفعة واحدة ، كشف عن المريضة ما كان يسترها من غطاء ، ودفعة واحدة ندت عنه آهة لم يتوقعها احد ، ذعرت المريضة وبسرعة جلست القرفصاء الي قلب السرير ، ويا لهول ما رأيت ، كنت اري آية من الجمال
لم ار مثلها في حياي كاني اري مانيكان او موديل نفد مثيله ، جسد من المرمر وجه من كل حسن العالم ، لون ما كان بالابيض او الاسمر ، ( حكاية ) نزلت عن سريري ناحيتها لاري هل كانت بشر مثلنا ام ملاك نزل من السماء ؟ كانت ما تزال تحت الصدمة التي سببها لها الطبيب باكية ، اسدلت عليها ثوبها ، سالتها من اين جاءت ؟ لم اشا ان اسالها عن سر جمالها ، قالت من بين ادمعها :
نحنا شنابلة
جمال مدهش ، مذهل ان شئنا الدقة ، اوشكت ان اسالها عن سر جمالها ، لكنني تمنيت لحظتها ان لو كانت لدينا مسابقات للجمال وملكات الجمال ، لما ترددت في اختيارها ملكة لجمال الكون ، سالتها لماذا لا تلبس ملابسا اثناء النوم ؟ فقالت :
نحنا اصلنا بنوم زي ده ما بنلبس
في الصباح وكنت ما ازال تحت تاثير مخدر جمال ام جمعة حين دخل زوجها لاري مطلعا لنجم من هوليوود
ولم يتركهن خلفه لدقيقة لانه سحبهن وخرج !!
ثمة اشخاص يدخلون حياتك ويخرجون للابد ، او من يبقي الي الابد ايضا ، بعضهم يبقي لبعض الوقت ، وبعضهم من تتآلف معه وتجده معك ، حيت في غيابه ، وهذا ما حدث لي مع احدهم ، استاذ الرياضيات في المرحلة المتوسطة وتلك حكاية اخرى
ايوا 2004
من كتاب تحت الطبع "كل الحمائم التى ربيناها طارت "


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.