زرت مدينة «الصُباغ» قبل ثلاث سنوات تقريباً ضمن وفد قاده الرئيس عمر حسن أحمد البشير إلى أرض البطانة، حيث افتتح خلال تلك الزيارة بعض المنشآت الجديدة في «الصباغ» ذات التاريخ البعيد المتغلغل في تكوين كل أهل المنطقة، والذي تكاد تشتم رائحته في أشعارهم ونماتهم ودوبيتهم، فالطبيعة هناك تساعد على تفتق الشعر في أذهان أهل المنطقة، وتعمل على أن يتسع خيالهم بلا حدود.. قبل أكثر من أسبوع تلقيت إخطاراً هاتفياً من رئاسة الجمهورية بأنني سأكون ضمن الوفد الصحفي المرافق للسيد رئيس الجمهورية في رحلته السنوية إلى مخيم البطانة الذي يقام في منطقة «الصباغ» بولاية القضارف، وتذكرت الرحلة السابقة رفقة الوفد الرئاسي، ورحلات سابقة إلى المنطقة عندما كنت أحد مقدمي برنامج (من الخرطوم سلام) في تلفزيون السودان والذي استمر يومياً لثلاث سنوات دون انقطاع، حاولنا أن نجعل من خلاله شاشة التلفزيون السوداني، نافذة يطل من خلالها مشاهدوه على كل أنحاء وطنهم، ونافذة تطل منها كل المناطق والمدن والقرى على الناس، وغير ذلك من رحلات صحفية توطدت علاقاتي فيها بالكثيرين من شيوخ وركائز وقوائم تلك المنطقة، وتوثقت علاقاتي مع قيادات الشكرية وآل أبو سن وغيرهم وتعرفت على شعراء المنطقة الذين كسبت منهم أصدقاء كثر من أمثال «الشوبلي» و«يوسف البنا» و«أمين البناء» وغيرهم. الصباغ والتغيير لم أتوقع تغييراً كثيراً في خارطة «الصباغ» التي يعرفها من يعرفها منطقة تاريخية، لكنها ما كانت مدينة تصنع لنفسها مكاناً في فضاءات ولاية القضارف الكبرى، وهي لا تبعد كثيراً عن منطقة «القرشي» والوصول إليها براً يبدو من الأمور الصعبة، وعادة ما يقصدها الناس من «تمبول» في الجزيرة أو من «حلفاالجديدة» في ولاية كسلا، لذلك كانت الرحلة إليها بالطائرة الهيلوكبتر. ارتفعت بنا الطائرة عند العاشرة صباحاً الخميس، وتمتعت برفقة أخي الأستاذ محمد عبد القادر بعد غيبة طويلة من الرحلات المشتركة، إذ كان آخر عهدنا في رحلة واحدة قبل أقل من عامين زرنا خلالها الصومال في معية الدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية الذي قاد مساعدات السودان إلى أشقائنا في الصومال، الذين ضربتهم المجاعة وحصارهم الجفاف. وسعدت برفقة عمدة بن عمدة بن عمدة، كما عرفني بنفسه الأخ الأستاذ سعد العمدة، الذي سمعت عنه كثيراً من الأخ الأستاذ عبد العظيم صالح مدير تحرير «آخر لحظة»، لكنني لم أراه أو أتعرف عليه، وإن كنتُ قد تعرفت على أحد أشقائه في «أديس أبابا» أواخر العام الماضي. ساعة أو تزيد قليلاً، كان هو زمن الرحلة التي رافقنا فيها وفد إذاعي قاده زميلنا الأستاذ مزمل سليمان وضم مجموعة خيرة ونيرة.. قبيل إنطلاقة الرحلة تأكدنا من أن وفد السيد الرئيس عمر حسن البشير يضم اثنين من مساعدي رئيس الجمهورية هما الدكتور نافع علي نافع، والعقيد عبد الرحمن الصادق المهدي، إضافة إلى الفريق بكري حسن صالح وزير رئاسة الجمهورية والدكتور فيصل حسن إبراهيم وزير الثروة الحيوانية وآخرين. على أرض البطانة طائرتنا حطت على الأرض الخضراء المنبسطة بعد ساعة أو تزيد قليلاً من الطيران، ثم هبطت طائرة السيد رئيس الجمهورية بعد ذلك بقليل، وكان على رأس مستقبليه والي ولاية القضارف التي تستضيف الحدث الأستاذ الضو الماحي، ووالي ولاية كسلا ذات الارتباط العضوي بالقضارف الأستاذ محمد يوسف آدم، والقيادات السياسية والتنفيذية والأهلية ليتجه الركب نحو المخيم الذي بدأ لي مختلفاً عما شاهدته من قبل، فقد نمت «الصباغ» وأطلت مبانٍ جديدة برأ سها، وبدأت المنطقة تأخذ شكل المدينة حديثة التخطيط التي تتمتع بخدمات الإمداد المائي والكهربائي. مدينة «الصباغ» الناشئة تتوسط المراعي الطبيعية الشاسعة التي تتجاوز مساحتها الأربعة ملايين فدان، وتضم ثروة حيوانية هائلة تتراوح أعدادها ما بين الثمانية إلى العشرة ملايين رأس، وتشتهر «البطانة» بأجود أنواع الأبل فيها ويسعى القائمون بأمر تنمية منطقة البطانة إلى أن يحمل مخيم البطانة، بعداً اقتصادياً قومياً كبيراً، إضافة إلى بعديه الاجتماعي والثقافي، حيث تصبح المنطقة قبلة للسياحة الداخلية وتنتعش الأسواق، ويتم طرح العديد من المشروعات الاستثمارية للراغبين في الاستثمار بالمنطقة. نصرة النبي الكريم طفنا على المعرض الضخم وعرفنا أن أهل البطانة جعلوا مخيمهم يقترن هذا العام بنصرة الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. وهذا ما أكد عليه الدكتور نافع علي نافع عندما خاطب الآلاف الذين كانوا شهوداً للحدث، إذ قال إن الإنقاذ ستظل مشروعاً للتحدي والكرامة وعهداً متجدداً في مواجهة الباطل من خلال المجاهدين والشهداء، وحيا أهل البطانة على ما قاموا به وزاد على ذلك بأن الخير الذي عم البطانة هذا العام لم يحوج الولاية لأحد، وكفاها البحث عن الدعم والقروض، مشيداً بتميزها في مجالات الثقافة والفكر والقيم الحميدة التي تمثل أخلاق كل السودان. وقبل خطاب الدكتور نافع الذي يبدو لنا خبيراً بالمنطقة وأهلها إذ مضارب أهله ومنصة ارتكازهم تقع في أرض البطانة.. قبل خطابه انطلقت حملة تطعيم مليون رأس من الماشية نظمتها وزارة الثروة الحيوانية بالولاية. جولة الرئيس البشير ووفده على المعارض كانت تقابل بالهتافات و(العرضة) وأبيات الحماسة التي تتناثر بين الناس. والي القضارف الأستاذ الضو الماحي نثر ماعنده من إنجازات وقال إن ولايته أكملت التمويل والتجهيزات للموسم الزراعي بما يفوق المائة مليار جنيه - بالنظام القديم - لزراعة ثمانية ملايين فدان منها مليون فدان تم تخصيصها لزراعة السمسم. أما معتمد البطانة، الشيخ عبد الجليل عمر حاج حسن فقد أعلن عن تمسك أهل المنطقة والولاية أجمعين بوحدة الصف في مواجهة أعداء الوطن. سباق الهجن وفي غير مكان المخيم كان سباق الهجن قد انطلق وفيه يتبارى أصحاب الأبل ويتنافسون، ليس السرعة وحدها ولا الخفة دون سواها، بل في أحجام وأنواع وأصول تلك الأبل (الغالية).. قال لي العمدة سعد العمدة، إن بعض رؤوس الأبل يتجاوز سعرها الخمسين مليون من الجنيهات، وإن صادر الحي منها إلى بعض دول الخليج قد يرفع سعر الرأس و(إنت وحظك) - أو كما قال - إلى أكثر من مائتي مليون جنيه، وعرفت أن طائرتين حطتا الرحال مساء يومنا ذاك بحمولتهما من الأبل الحية المملوكة للعمدة في أحد مطارات دول الخليج وكان يتابع بهاتفه الجوال مراحل وصولها خطوة بخطوة. من أين جاء هؤلاء؟ لاحظت أعداداً كبيرة من الناس بمختلف السحنات والألوان والأعراف و(علامات) الوجوه والخدود، سألت من كان بقربي: (من أين جاء هؤلاء؟).. فقال لي إنهم (الدّهابة) الذين يبحثون عن الذهب والذين يجنون الكثير من الأرباح، وهناك من جاء للعمل في مجال تقديم الخدمات بدءاً من صناعة الطعام وبيعه مروراً بتأجير آليات ووسائل التنقيب أو الطحن أو التصفية مروراً بتأجير الأسرة والعناقريب للمغامرين والباحثين عن الذهب هناك. (هلال مريخ) تؤجل الليلة الشعرية حتى الشعراء الذين كانوا ضمن برنامج الليلة الشعرية رأيت أنهم تكاسلوا، أما نحن فقد سيطرت علينا أخبار وتوقعات واستنتاجات نتيجة مباراة (هلال مريخ) منذ أن جلسنا داخل مقصورة الطائرة الهيليوكوبتر، فقد كان معنا سعد العمدة، وقطعاً يعلم الجميع أنه (هو من هو) داخل الهلال. وكان من بين رفاق الرحلة الأخ الفريق طه عثمان الخليفة مدير مكتب السيد الرئيس البشير، والذي سعى لتنفيذ توجيهات السيد الرئيس بحل مشكلة الهلال الأخيرة التي نشبت بين رئيس النادي الأمين البرير وبين الكابتن هيثم مصطفى.. بيني وبين نفسي كنت أشك في قيام الليلة الشعرية، وذكرت لمن معي أنها قد تؤجل إلى الغد، فالجميع مشغول بالمباراة التي تبدأ عند الثامنة من مساء الخميس.. وكنتُ أقول لمن معي إن الرئيس نفسه مهتم بأمر المباراة، إذ كيف يستقيم عقلاً اهتمامه برأب الصدع داخل الهلال ولا يهتم بمشاهدة مباراة تجمع الندين التقليدين معاً. و.. تم تأجيل الليلة الشعرية إلى صبيحة اليوم التالي، أي يوم أمس الجمعة. سوق عكاظ سوداني في البطانة بين كل شاعر وشاعر شاعر، وكلهم يتسبب ويتغزل ويغني، لا استثني منهم أحداً، حتى ولو كان الدكتور نافع علي نافع، حتى أن بعض المشائخ والشباب طالبوا به رسمياً إلى منصة الشعر داخل الخيمة التي تمنيت لو أن القائمين بالأمر أسموها «خيمة الحردلو». خرجنا عن المألوف.. نسمات الخريف المنعشة مازالت تجوب تلك المناطق.. والناس يبتسمون دوماً لا ينقصهم شيء فالحياة بسيطة والمطالب أكثر بساطة.. والأولاد والبنات ينتظمون في الدراسة، وسهل البطانة يستقبل المدن المنامية، مثلما يستقبل الخريف، مثلما يستقبل الثروات، مثلما يستقبل الذهب.. مثلما يستقبل الرئيس.