بدت أرض البطانة من حدود ولاية الخرطوم وولاية الجزيرة في اتجاه الشرق والشمال الشرقي، قبل سنوات، أشبه بما تكون في ساعة نحس كما في الرواية القصيرة لجبرائيل غاريسا ماركيز التي صدرت مطلع الستينيات، فقد كانت تعيش على هامش الزمن تلوك ذكريات مضت وأشعاراً لا تزال طازجة للصادق ود آمنة وود السميري والحاردلو وأحمد عوض الكريم أبوسن وود شوراني وود سند حتى علي ود الضو بياتي ومحمد عبد القادر الحاردلو وغيرهم من شعراء البطانة الفحول، الذين اختزلوا الزمن واختصروه، بخيالاتهم ومروءة الفلاة وصورهم الشعرية، وجعلوه قبساً من زمان جاهلية العرب في بواديهم ومضاربهم عندما أتوا الزمان على شبيبته قبل أن يهرم الزمن وتكبر الدنيا وأحزانها.. كانت البطانة تشرب من ضوء الذكريات، كدجى تاج السر الحسن في قصيدة آسيا وإفريقيا التي غناها الكابلي أمام جمال عبد الناصر بالخرطوم عام 1967م: « والدجي يشرب من ضوء النجيمات البعيدة..» هذه الأرض الموزعة بين عدة ولايات.. الطاعنة بقرنها في شرق السودان والرامية بكفيها على الجزيرة وذؤاباتها الطائشة على الخرطوم ونهر النيل، كانت تعيش النسيان ومرارة الكفاف وجسارة العفاف، تضرب فيها للسفر أكباد الإبل والخيل المطهمة العتاق، وتعبرها قوافل الشكرية والبطاحين واللحويين والخوالدة وقبائل أخرى، لا يعرفون من الحياة إلا الزاد القليل والخدمات الشحيحة وهجير الشمس في الصيف وعصف الرياح الشتائية الجافة وهزيم الرعود ودمدمتها في الخريف حين تحيا الأرض وتلبس قشيب ثوبها الأخضر الزاهي، وتتراقص غزلانها بعد أن يكون الخبر الأكيد برشاش البطانة.. أمس ومن نافذة الطائرة العمودية التي أقلّتنا في صباح باكر من الخرطوم، في معية الأخ كمال عبد اللطيف وزير المعادن وبدر الدين محمود نائب محافظ بنك السودان وعدد من قيادات الوزارة واتحاد الصاغة ووكلاء البنك المركزي، كانت أرض البطانة قاحلة ممتدة بلونها المغبر ووديانها العطشى وهي ترتجي الخريف، طافت صور شتى ظلت مجمدة في الذاكرة عن هذه الفيافي والفلوات الواسعة.. قصص وأشعار وفروسية وبطولات وحكم.. تتوالد الأبعاد من أبعاد، ويتلون التراب من زركشات وترانيم تتعرج في المدى المفتوح كوديان وخيران البطانة تخترق السهول. وصلنا مدينة الصباغ.. عاصمة محلية البطانة بولاية القضارف، في زيارة مع وزير المعادن، لافتتاح نافذة لبنك السودان، وتفقد العمل في التعدين الأهلي عن الذهب في مناطق البطانة ومجاهلها، وهي الزيارة الثانية في أقل من ستة أشهر للوزير وقيادات وزارته، وكان معنا الأخ الصديق العزيز المهندس عبد العظيم مصطفى البدوي وزير التخطيط العمراني بولاية القضارف. «الصباغ».. عُفت من قديم كواحدة من حواضر وبنادر البطانة العريقة وموطن مهم من مواطن الرحّل وأصحاب الإبل من الشكرية ومورد مياه قديم وآبار معروفة وسوق تجمع حوله عرب البطانة، ومركز حضري كبير فتح فيه شيخ محمد حمد أب سن ناظر الشكرية، معهداً علمياً وفتح لها آفاق التعليم، وعرفت حديثاً وذاع صيتها بمخيم البطانة السنوي للتراث والشعر الشعبي الذي يشهده رئيس الجمهورية ويقضي أياماً بين أعطافه، وقد أحدث هذا المخيم في سنته الخامسة عشر تحولاً ضخماً في الخدمات بدعم رئيس الجمهورية للمنطقة واهتمامه الخاص بها. تتكون منطقة الصباغ أو محلية البطانة من قرى وبلدات صغيرة هي ريرة موطن الشاعر الحاردلو وأشهر مناطق البطانة، والباهوقي والعديدات وأم سرحة وسروج محمود والحسينية وود بشارة وشاور والخياري وأبو قمبيل والفويل والتكون والحجر والصفي القديمة وأب جراد والهشيب والبرص والساتة وغيرها من بطاح الوديان والتلال والجبال الصغيرة. في هذه المناطق تجلت قدرة الله وفضله على أهل السودان، وأنعم عليهم بثروة من باطن الأرض، فخرج الذهب الأصفر من بين شقوق الأديم وصخور الجبال والعتامير، وصارت هذه المنطقة من أهم مناطق التعدين الأهلي ودخلتها شركات التعدين التي تعاقدت معها الحكومة والتي ستكون لأعمالها هناك انعكاسات إيجابية على المنطقة وتطورها الخدمي والتنموي.. وإفادات معتمد المحلية عمر حاج حسن وشيخ الخط عبد القادر الحاردلو ابن المنطقة وشقيقه البرلماني الضليع القيادي عبد الله الحاردلو تعطي صورة كاملة للمنطقة وأريافها ومستقبلها. اهتمت وزارة المعادن بقيادة الوزير المثابر كمال، اهتماماً خاصاً بهذه المنطقة وعموم البطانة لتاريخها وأهميتها ولوجود عشرات الآلاف من العاملين في التعدين الأهلي، وزيارتنا أمس بغرض افتتاح نافذة لبنك السودان لشراء الذهب من المنتجين بسعره المعلن في الخرطوم منعاً للتهريب ومحاصرة للسماسرة والوسطاء مما يفتح آفاقاً جديدة لأهل المنطقة التي انتعشت تجارياً واقتصادياً وظهرت تحولات اجتماعية كبيرة في المجتمع المحلي، فلا بد من حماية حقوق أهل المنطقة وتطوير التعليم والقطاع الزراعي والحيواني ومحاربة الفقر. تفاصيل كثيرة عن هذه الزيارة الميدانية ومشاهداتنا نفرد لها حديثاً آخر خلال الأيام القادمة.