حديث السلام والنفط ، اللهم أجعله خيرًا ، غطى تماماً على (حدث) الذهب الذى كان قد تلألأ ومضى لآخر المطاف وتوج نفسه بطلاً منقذًا لاقتصاد البلاد في أحلك الظروف بافتتاح مصفى هي الاولى في السودان والثانية في افريقيا .. أما الزراعة ثالثة العمالقة في صراع العالم اليوم فقد بقيت على (تواضعها) القديم منذ عصر اكتشاف البترول في السودان لأول مرة في أواخر سبعينات القرن الماضى وكنت شاهدًا على ضجة كاسحة أثارت الآمال بلا هوادة فقاومتها بمقال نشرته صحيفة الأيام عنوانه ( اكتشفنا البترول فمتى نكتشف الزِّراعة؟!) صنفت وقتها بين المتخلفين يوم الفرح الكبير..ولكن سريعاً ما انقشعت الغيبوبة، وظل السؤال قائماً يفرض نفسه(متى نكتشف الزراعة؟) وان تدفق البترول بشروطه وعثرنا مصادفة على الذهب واقمنا له مصفاةً وراهنا على إنه البديل للنفط إذا تعزز .. لقد تأكد أنه لا بديل للزراعة ايضاً إلا الزِّراعة. فليسجل التاريخ : الذهب والمواطن وراء انقاذ الاقتصاد في أحلك الظروف وبأكثر مما كان متوقعاً للتحرر من (الشماتة) ومن لواعج البترول، ومآلات الإقتراض من الغير أعطونا أو منعونا والتزلف للبنك الدولي والارتهان لاغراءات طباعة العملة . حمدًا لله على السلامة .. فرحة غامرة غشت الدولة فجأةً فما حبست دموع الفرح ! ولا اكترثت لوجود الضيوف ومحللي أقوال الصحف فاعترفت علناً بأن أرزاق الله تعالى حلت على البرنامج الثلاثي من السماء والأرض(المطر) و(الذهب) فانقذته من الإنهيار،مع إنه كان صمم(نظرياً) لتجنب هزات ما بعد إنفصال الجنوب. جلجلت أصداء فرحة الدولة بالمطر والذهب من خلال خطاب وزير المالية في افتتاح المصفاة بحضور الرئيس . الخطاب كان مرتجلاً يفيض بالفرح والتحدث بنعمة الله تعالى. خطاب سيادي مذهب يفيض بالمعاني التي استقاها الوزير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحث على حسن التوكل على الله ليذكر الناس لهفة سيدنا زكريا حين أدرك المعنى الرباني(ان الله يرزق من يشاء بغير حساب) سورة آل عمران 37، فاسرع يناجي ربه موقناً بعد يأس.. تفاءلت ان يعمل الوزير بما قال، فحسن التوكل يعني التخطيط الجيد القابل للتنفيذ في الميقات المحدد ، كما يعني الأخذ بأسباب العدالة ومنها إتقاء الله في حقوق الآخرين . هذه قيم لا يغني عنها البترول ولا النفط ، بل هي ميثاق الدولة الأساسى مع المواطن ورهان الدستور المنشود . إن عدالة توزيع الثروة أحد ركائز الميزانية الجديدة كما أعلن الوزير وهو يهتدي بحزمةٍ من قيم(أعقلها وتوكل على الله) ولعله يتوكل فيفعل قيم(رد الحقوق الى أهلها) إنصافاً للمتظلمين وسائرالأوفياء للواجب فيزداد الجميع عطاء. أخشى ان يترك كلام القيم هذا في منصة الاحتفال أو يتلاشى في زحمة الأحداث والأقاويل وبعضها مقصود منه إرباك صاحب القرار المالي وتوسيع الخرق ليستعصى على الرَّاتق . وشيء من هذا حدث في عهد وزير سابق للمالية مشهور خرج ينازل الدولار في معركته التي أنجبت (السوق الموازي) فاطلق حكمته القائلة (حماية التقدم بالعدالة) فما سمعه أحد وتفاقمت سطوة الدولار.ذهب الوزير لتبقى الحكمة مادامت متصلة بالعدالة والحكم الراشد والتقدم الذي تبدو فرصه الآن أقرب للمآل. العلامة ابن رشد عول أيضاً على عدالة الدولة وطهارة اليد فقال( شرعية السلطة هى العفة ، العلم ، والحكمة) العفة صنو العدالة والعلم هو التخطيط، والحكمة هى الحكمة ضالة المؤمن .. فليمض وزير المالية في العمل بالقيم التي استعصم بها ليوم افتتاح هذا الصرح الاقتصادى الباذخ . واذا مضى في الاستعصام بالقيم عملياً سيجد من يزيده مما حفل به التراث مثل ما قاله ذاك الصحابي المعروف (إنى أعرف أخطائي من عثرات دابتي). بالعدالة تُزال العثرات ويُصان التقدم ، وبها تنجو الدولة من صنوف المكائد، مماتلاقيه من غيرها وما يصنعه بعض بنيها. الوزير أدرى بمواضع التظلم من الإجراءات واللوائح والسيولة، وبامكانه ان يتوكل على الله ويبدأ في نفض الغبار وإزالة التراكمات ويغسل يد الدولة من أية ديون مستحقة عليها لمواطن متضرراً من (الرسوم) أو معاشياً أدماه قهر التعسف أو متعاقداً تلكأت حقوقه،أو مؤسسة غير إيرادية مغلوبة على أمرها لا وجيع لها ، وهل ننسى ضحايا الخصخصة والهيكلة والرقمنة؟.. من عجب ان(الخواجات) الذين صدروا لنا التكنولوجيا صدروا لنا معها حزمة من القيم تقول إن البشر أولاً !! فاتقوا الله في حقوقهم، وتشترط الرِّفق ببيئة العمل واشاعة ثقافة الشفافية ومعالجة أوضاع العاملين الذين يتم الاستغناء عنهم بحجة التغيير لا التطهير والصالح العام . كأنما الوزير بخطابه(الذهبي)هذا يقول إنه أولى بهذه القيم لاسيما والبلاد تعالج دستورًا جديدًا .. فليفعل ما يقول كأهل الجودة والإمتياز و(الآيزو) وذلك قبل الدخول في عام مالي تحل عليه البركة وتدوم عليه نعمة النفط والذهب معاً، والزراعة كذلك متى(نهضت)من كبوتها.. وزارة المالية جربت مرارة اللهث فيما وراء البحار عشماً في إعفاء ديونها ، والوزير الذي تحدث بلغةٍ القرآن الكريم والسنة المطهرة في خطاب رسمي وفي مقام الذهب المصفى كانت كراساته في مرحلة الأساس مكتوبٌ عليها (ارحموا من في الأرض يَرّحمكم منْ في السَّماء). فلتبدأ الوزارة بنفسها وتضرب المثل لغيرها من الوزارات في حسن الاقتداء بالقيم وإرساء خطاب عام قوامه المصداقية والأخذ بلغة العصر (إفعلْ ماتقول) وهي قبل ذلك لغة الدين(كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّه أن تقولوا مالاتفعلون)سورة الصف3 . ولتكن ميزانية تقرن القول بالعمل، ميزانية بلا مظالم مرحلة ، بلا غبن مصنوع . هذا أدعى لتحل بها البركة فتسلم القرارات من سوء الطالع ويحل التراضي في النفس التي أجهدها إنتظار حقوقها المؤجلة، وينجو أهل الإستثناءات والامتيازات من الدعاء عليهم كل مرة (بالساحق والماحق) والعياذة بالله .