قلنا في سرد سابق أن (الثقافة) الإسلامية بدأت رحلة العودة الي كبريائها القديم مع ظهور الفقيه إبن تيمية في القرن الرابع عشر الميلادي. وأستمرت تتقلب بين أوجاع ضعف الخليفة التركي والأطماع الأوربية حتى وصلت المسيرة بعد أن حملت معها فقهاء أمثال: إبن عبد الوهاب، محمد عبده ، والافغاني، ورشيد رضا، والبنا ، والمودودي، وسيد قطب، عبد الله عظام.. وصلت الي محطة عبد المعز أيمن الظواهري وبن لادن.. قصدنا بهذا السرد لنؤكد ما قلناه من قبل أن المسيرة لن تتوقف بقتل بن لادن ولا غيره، وذلك ما أراد أن يبشر به الرئيس الأمريكي شعبه وهو يعلن مقتل بن لادن. والمسيرة تدخل محطة الثمانينيات أكتملت (الخميرة الجهادية) في وعي أبو عبد الله أسامه بن محمد بن عوض بن لادن..بدأ شارباً من معين سلفي هو مدرسة إبن عبد الوهاب. ولكن ربما لأن الوهابية في هذه الفترة كانت قد ذابت في السياسة بدأ يتطلع الى سلفية متسقة مع تطلعات الشعوب المقهورة بالقوة اليهودية الأوربية. كان أمامه تنظيم الأخوان المسلمين الذي أفرز زعيم مثل عبد الله عزام، ولكن تجارب الهوان العربي الإسلامي التي تراكمت في وجدانه الجريح بما فيه الكفاية، جعلته أن يبحث الى وجهة فقهية أكثر تشدداً، ولم يذهب بعيداً فقد كان هناك تيار سلفي حركي داخل الأخوان المسلمين أنفسهم هو تيار سيد قطب المتشدد هذا الإستعداد النفسي سهل الطريق أمام الظواهري لاقناع بن لادن، لتبني تيار سيد قطب المتشدد. في هذه الفترة (1982م) بدأت نواة الكراهية لامريكا تتكون في وجدانه لأنها ناصرت الإحتلال الإسرائيلي السافر للبنان.بدأت الخطوة العملية الأولي في مناصرة الافغان في حربهم على الروس في أعوام (79-1989م) بدأ يجمع الأموال ويرسلها للمجاهدين بزعامة الشيخ عبد الله عزام وهو زعيم فلسطيني كان يدير معسكرات المجاهدين العرب الأولي في افغانستان عقب خلافات نشبت إنخرط بنفسه وكون معسكراً جديداً للأفغان العرب، في هذه الفترة روج لهم الإعلام الأمريكي واحتفي بهم الرئيس الأمريكي ريجان ووصفهم (إنهم المجاهدون في سبيل الحرية)!! كان المقصود بالطبع توظيف طاقاتهم لمحاربة أعداء أمريكيا التقليدين كالروس والصينيين. ومن مفارقات حركة التاريخ أنهم تربوا على أيدي الأمريكان... كما تربي موسي في بيت فرعون. هذا المعسكر الذي أداره بن لادن وعبد الله عزام حمل إسم «القاعدة» وانطلق من هناك منذ عام 1988م. أختلفوا في جذور هذا الإسم ولكن لم أصادف منهم من إنتبه إلى أدبيات سيد قطب في بداية الستينات. هناك كان يعتقد بضرورة الإهتمام بالقيمة النوعية في عضوية التنظيم حتى لو كان على حساب الكم. هؤلاء الصفوة سماهم بقاعدة التنظيم وربما إستعان بنصوص قرآنية كما فعل غيره ولكن كان هو أول من أطلق هذا الإسم. بدأ هذا المعسكر بعددقليل من العرب عام 1983م بزعامة عزام ثم تحول على يد بن لادن من مجرد مكتب خدمات إلى معسكر للصفوة المجاهدين ، ثم إلى تنظيم وتمت مبايعة بن لادن أميراً للمجاهدين. بعد خروج الروس ظهرت فتن قتل جرائها عدد من زعماء المجاهدين أمثال الشيخ عبد الله عزام ، إنتقل التنظيم الى المشاركة في حرب الخليج عام 1991م ، ثم بدأت مرحلة السودان (1993- 1998م) وهي مرحلة نقلة فكرية في هذا الوقت ثم إعلان إنهيار الاتحاد السوفيتي 1992م. انفردت أمريكا بالعالم وبدأت تمارس بلطجة صريحة. الطلاق الرسمي بين أمريكا والقاعدة إنطلق في هذه المرحلة عندما إتهمت بن لادن بالمشاركة في قتل الجنود الأمريكين في الصومال. تطور الصراع إلى وتيرة أشد عندما أعلنت أمريكا مبدأ إحتواء الأصولية الإسلامية عام 1994م، ثم إنتقل الصراع إلى مرحلة متقدمة بخروج فتوى صريحة بتوسيع إباحة الدم، ثم بالإتفاق على «الجبهة العالمية لمحاربة اليهود و الصليبين» في سنة 1998م ضرب الأمريكان السودان وشددوا الخناق عليه حتى ضاق مجاهدي القاعدة وحماس. رحلوا إلى افغانستان في حماية قبائل البشتون ثم إلى (طالبان)، وهم هناك نفذوا الضربة التي ما زالت تزلزل أمريكا في «11 سيتمبر 2001م» وقتل في هذه الهجمة اكثر من ثلاثة آلأف أمريكياً تكبدت فيها أمريكا خسائر هائلة لم تقفل حساباتها حتى الآن . كلفت الخزينة حتى 2010م خمسة ترليون دولار. ولا يبدوا أن المطاردة ستنتهي ولأسباب يجملها (عبد الرحمن مظهر) مؤلف كتاب «الشيخ والطيب» نقلاً عن خالد الأشهب بالقول: «... وإن نشات (القاعدة) على طريقة المنظمات والأحزاب، تحولت بفعل بنيتها العقائدية والثقافية الى تيار فكري لا يحتاج في إنتشاره إلى إجراءات تنظيمية أو قيادات مركزية أو طبقات سياسية ولا إلى سجلات ولوائح، بل لعله أتخذ لنفسه أكثر من طابع وطريقة بحسب ثقافة ومكونات المجتمعات والفئات التي تغلغل داخلها» ليس من السهل إستيعاب فهم موقع بن لادن من الحضارة المعاصرة إذا حاولنا أن نحلله خارج سياقه التاريخي. المفارقة العجيبة أن حركة التطور الحضاري تلملم التجارب الفقهية المتناثرة في العالم الاسلامي منذ القرن الرابع عشر الميلادي وقد تجمعت الآن على شكل هرم يجلس بالقرب من رأسها الشيخ بن لادن و لا أحد في العالم الاسلامي يختلف مع أشواق بن لادن، وإن كان هناك كثيرون يختلفون مع فقهه. والسبب أن ما يراه في قمة الهرم لا يراه الآخرون في قاعدته، ولكن السياسة دائماً لا تقوم على ذوق الخواص لهذا سيظل في هذه المرحلة من الغرباء. يقول شيئاً في وجه الحضارة الأوربية المهيمنة يرتعد منه المسلمين ولا يستطيع الضعفاء أن يدفعوا ثمن هذا الفقه، لهذا يبحثون عن الرخص وهم محقون اذا تحاججوا بها لأن الخصوصية الاسلامية تكمن هنا. قوة الخطاب القرآني في خصوصيته الهائلة: تخاطب كل عقل أو «عقلية» يستطيع كل الناس أن يجدوا فيه مبررًا ولكنهم لا يملكون قراراً من رأس الهرم وعنده العقيدة. من يقرأ المذاهب الفقهية المختلفة في هذا السياق لن يجد اختلافاً بل تكاملاً، مثلاً: لن يجد اختلافا كبيراً بين فقه الشيخ محمد عبده والمنفتح وفقه الشيخ سيد قطب المتشدد: كلاهما موجود في سلوك القاعدة: تدربوا تماماً علي تقنيات العصر من إنترنت وطيران وعلاقات عامة وإعلام ثم هم ايضاً يحسمون صراعاتهم بالسيف وهذه الإزدواجية هي ما أقلق المحلل الأوربي الذي تعجب من ان أنصار بن لادن يجيدون تقنيات العصر وهم يعيشون بعقلية القرن السابع الميلادي.!! إذن بن لادن يجلس على قمة جبل غاطس لم يظهر بعد حتى للغالبية العظمى من المسلمين و الأخطر من كل هذا أن هذا التاريخ الملون بالإختلاف اختزلت في تجربته .. وهذا سبب الإستحالة في التخلص منه ، وعلى العكس مما أراده القتلة أصبح الآن «ايقونة» بالشهادة أو قل رمز يظهر في الآفاق أكثر نصاعة كلما أمعنوا في مطاردته وقتله!! خلاصة الخاتمة هي: أن (بن لادن) الذي رمى جثته الأمريكان في البحر بطريقة مهينة تحول الى شخصية أثيرية تبث إشارات خطرة منها: 1. أصبح رمزاً في ثقافة المقاومة . يشتد نصاعة كلما أمضي اليهود الأمريكان في البلطجة وتعددت الإساءات للقرآن وللرسول . هذه الإهانات المتواصلة تجعل ما لم يكن مقبولاً في فقه بن لادن مفهوماً لدى المسلمين المعتدلين! 2. تستمد (القاعدة) الطاقة من هذا الرمز ، ويشتد ساعدها كلما اتسعت إمكانية الجهاد الفردي الذي ينفذ قرارات المركز . ومعلوم أن قدرة (القاعدة) على البقاء معتمدة تماماً على (مركزية القرار ولامركزية التنفيذ). وهذا يؤدي إلى إنتشار جغرافي من الصعب إحتواءه!!إذن بلغنا هنا خلاصة الخلاصات وهي: إن الرئيس الأمريكي بارك اوباما لم يكن إلا واهماً وهو يطمئن شعبه ان بن لادن مات ولن يسير مرة اخري على الأرض!! والأنكي من ذلك كله أن أيمن الظواهري الذي خلفه في رئاسة القاعدة هو الفقيه الحقيقي الذي شكل فكر بن لادن وهو أشد تطرفاً منه..