كان يكتب في الأوراق الرسمية بمكتبه المتواضع..تسلّل إليه صوت امرأة تشكو مرارة العيش وجور الزمان طلب مدير مكتبه الأستاذ التجاني محمد إبراهيم الذي كان يتولى إدارة مكتب والي النيل الأبيض السابق محمد نور الله التجاني.. سأل الوالي مجذوب يوسف بابكر مدير المكتب ماذا هناك.. التجاني إنسان مؤدب نظيف الثياب عفيف اليد واللسان لم يشيد عمارة أو يأكل مال الدولة.. قال بحياء وأدب سيادة الوالي هناك امرأة قادمة من هبيلا تريد لقاء الوالي حاولنا أن تشرح لنا أسباب إصرارها على لقائك فرفضت. خرج مجذوب يوسف من مكتبه (مكتب محافظ الدلنج) بعد يومين فقط من تعيينه وصافح السيدة خارج المكتب.. جلست على الأرض وأخذت تنتحب بشدة نزلت دموع المحافظ كالمزن في الهملان.. أخذت السيدة تحكي قصتها.. مات زوجها برصاص التمرد حينما هاجم التمرد قرية (كدير) أصيبت ابنتها الكبرى.. وأخذت أطفالها لمدينة الدلنج لم تجد طريقاً للكسب الحلال غير صناعة الشاي اتّخذت من موقف المواصلات مكاناً للرزق داهمتها (كشة البلدية) أخذت كل الأواني وفرضت عليها غرامة مالية وضعت في السجن ليومين وحينما أُفرج عنها وجدت أطفالها قد أصبحوا يقتاتون من (الكوش) وبقايا الطعام التالف.. أخرج من جيبه وحر ماله مبلغاً من المال ووضعه في يدها ومنحها تصديق بكشك يتم تشييده على نفقته الشخصية!! حينما عين مجذوب يوسف بابكر والياً على جنوب كردفان كانت الحرب قد اشتعلت بين الإسلاميين وأخذت الأجهزة الأمنية تلقي القبض على الإسلاميين ممن اتّجهوا صوب (المنشية) حيث الشيخ الترابي.. لم يطق المجذوب رؤية أخيه عبد الرحمن شنتو يجلس وراء الأغلال حبيساً ولم يصدق أن خيري القديل وحاج ماجد سوار وعلي دقاش وعمر سليمان آدم والأمين الكمير يمثلون خطراً كبيراً على الدولة ينبغي اعتقالهم تحفظياً.. التقي المجذوب برئيس الجمهورية الذي يعتبر المجذوب من الصادقين الذين لا يرد لهم طلباً فقال المجذوب للرئيس (إذا كانت هناك ضرورة لاعتقال بعض الأخوان في الخرطوم فإن الأخوان من المؤتمر الشعبي في جنوب كردفان تحت مسؤوليتي الشخصية هم جزء مني وأنا منهم أتلمس منك أخي الرئيس أن تطلق سراح هؤلاء!! عندما عاد لكادقلي وجد قيادات الشعبي قد أُطلق سراحهم!! باع المجذوب ثلاثة من مزارع أسرته في الجريف وتخلص من بيوت يملكها خلال فترة توليه منصب المحافظ في الدلنج والوالي في كادقلي والنيل الأبيض كان يجمع التجّار من عشيرته ويحثهم على فعل الخير ودعم الضعفاء والمساكين وفي كل عام يسير أهل المجذوب ومعارفه وأصدقاؤه وتلاميذه من الخرطوم حتى الدلنج قافلة لوجه الله تعالى لا يريد منها المجذوب جزاءً ولا شكورا. كان والياً يرتدي الثياب البيضاء زهيدة الثمن يتناول عشاءه على الأرض لم تبطّره السلطة وتجعله يمشي بين الناس في فخر كما مشى من جاء من بعده.. الوالي الوحيد في جنوب كردفان الذي اتّفق الناس على زهده ونظافة يديه. رحل مجذوب يوسف بابكر الأسبوع الماضي وعند رحيل المجذوب نزرف الدمع ونتضرع لله في هذا الشهر أن يحف قبره الماء البارد وينزله رب العباد مع الصديقين والشهداء.. نحن عبادك في الأرض نشهد لأخينا المجذوب بفاضل الأخلاق يا رب العالمين!!.