آخر زيارة لي للعاصمة الأرتيرية «أسمرا» كانت في أواخر العام 2006م، استمرت لساعات فقط، شهدت خلالها توقيع إتفاقية السلام بين الحكومة وجبهة الشرق، بعد أثنى عشرة عاماً من الصراع، وكانت ليلة مشهودة، وشارك في حفل التوقيع مئات من السودانيين الذين يمثلون القوى السياسية والحزبية، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني، وممثلين للصحافة والإعلام، وجلس وقتها مولانا محمد عثمان الميرغني قريباً من الرئيسين «البشير» و«أفورقي»، وهزَّ موسى محمد أحمد رئيس جبهة الشرق بعصاه وسط الحلبة مع الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل رئيس وفد التفاوض. أكتوبر، ودرجة الحرارة في انخفاض مستمر، وآثار الصيام كانت تبدو على الوجوه والأجساد المنكهة، فقد كان التوقيع في بداية الاسبوع الرابع من شهر رمضان. هكذا حبست في ذهني تلك الصورة، لمدينة إفريقية تعتبر عنواناً ونموذجاً للنظافة والأمن والنظام، مع حدث سياسي كبير أثَّر على الخارطة السياسية في بلادنا، إضافة إلى طقس بارد إلى درجة لا نكاد نتحملها، فالعاصمة الإرتيرية «أسمرا» ترتفع كثيراً عن سطح البحر، ولا أحسب أنها تعرف حر الصيف الغائظ الذي نعيشه أكثر شهور السنة. شاهدتُ قبل يومين سهرة سودانية أرتيرية بثها التلفزيون الأرتيري، بمناسبة مقدم السنة الميلادية الجديدة، السهرة فيها إمتاع ومؤانسة، شارك فيها من السودان الفنان مجذوب أونسة، والفنان أبوبكر سيد أحمد، والفنانة شموس، إلى جانب فنانة أرتيرية اسمها ننا سقاي، وفنان نسيت اسمه الأول وبقي اسمه الثاني في ذهني، وهو «ياريت». أعجبني تجاوب الأشقاء «الإرتيريين» مع الغناء السوداني رغم اختلاف اللغة، واقتراب الغناء الأرتيري من محيط الغناء السوداني، وكل الفرق الموسيقية في البلدين تعزف على السلم الموسيقي الخماسي، مثلها مثل كل الفرق الموسيقية في أثيوبيا والصومال وجيبوتي، وكثير من دول الجوار السوداني الأفريقي. وأعجبني أكثر أن المجموعة السودانية الفنية التي شاركت أشقاءنا في أرتيريا احتفالاتهم بالعام الميلادي الجديد، كانت تلبي دعوة مشتركة ما بين وزارة الثقافة والإعلام في أرتيريا، وما بين سفارة السودان في أسمرا. شاهدتُ السهرة كاملة، فآليت على نفسي أن أكتب عنها، وأن أشيد بسفرائنا من المطربين الذين يسهمون في إثبات وجودنا الثقافي في كل القارة الإفريقية، وأن أشيد بصفة خاصة بالأخ الزميل والصديق الأستاذ هيثم كابو، الذي كان ضيفاً على ذلك البرنامج الاستثنائي الخاص، فكان نموذجاً للضيف المثقف الذي يعي دوره، وكان بسيطاً واضحاً في طرحه، عميقاً في فهمه للعلاقات بين الشعوب.