إنا لله وإنا إليه راجعون أيا قبر لو أنا فقدناه لكان التأسي من جوى الحزن شافيا ولكنا فقدنا كل شيء بفقده فهيهات أن يأتي الزمان به ثانياً نعم لقد رحل «جيب الله محمد عبد القادر» في وقت وجيز وعاجل، وغاب عنا رجلٌ سمحٌ وشهمٌ وكريمٌ، ترك من ورائه أعمالاً جليلة ينتفع منها الناس، رحل جيب الله ومازال صدى صوته يرن في آذاننا، وصورته وطلعته البهية تداعب خيالنا وسيرته العطرة، تجبرنا بالدعاء له بصالح وخالص الدعاء، ونحسبه من أصحاب اليمين إن شاء الله. رحل جيب الله وهو يحمل زاده الذي تزود به في صلاة الظهر ويكفيه أن قرآن الفجر كان مشهودا، فالرجل كان كثير الحديث عن الموت وكيفية الاستعداد له.. كنت أحس بأن حديثه صادراً من أعماقه، وأشهد بأنه كان يصدق في القول والعمل.. أن نعيه كان أليماً على من تناقلوه، وحاولت أن أبحث عن عبارات ومفردات شفيفة أعبر بها عن بالغ حزني، ولكن في كل مرة أحس بالغصة تطعن في حلقي، ومرارة الرحيل تشعل النار في فؤادي، والعين تدمع بلا انقطاع.. كيف لا وهو من يصنع من ليل السكون طاقة، ومن أبواب المستحيل يفتح بدايات الأمل والتفاؤل، فكان مبتدأ الحديث وخاتمة السكوت، كان المنبر والمعبر لمجاهل الدروب التي من بعد رحيله صارت جدباء مسكونة بالحزن والأسى.. وما كنا ندري بأن العلة المفاجئة قد استباحت حرمة روحه الطاهرة النقية الراضية المرضية.. فما أعمق الجراح التي توغر الصدور، فكان فينا مثل حمامة السلام يجمع بين الناس ولا يفرق، يؤطر ولا يباعد بينهم، يعطي ولا يأخذ، ولا يتبع أسلوب الهمس والغمز واللمز، كان مثل الشمعة يحترق لينير طريق الآخرين.. ولهذا بكاه رجال كنا نظن أن لهم قلوباً هي كالحجارة أو أشد قسوة، ناحت النسوة وصرخ الأطفال، وخيّم الحزن، وعبس بكل الوجوه، تأملت ذلك وتذكرت الرقة والبشاشة، وذاك النور المنبعث من وجهه المتألق بنور الهدى والتقوى، وظهرت لي تلك الابتسامة الصادقة الوضاءة وهي تسابق يده الممدودة ليعانقني، وفي عينيه إصرار أدركت منه اهتمامه بالمواقف مهما قلَّ أو كبر حجمها. كان الراحل المقيم يحظى بكم هائل من المحبة والاحترام والتقدير، نظراً لجهوده ولعطائه السخي، وكان لا يرد من يطرق بابه، ولا يفشي سراً حرصاً وتثبيتاً للأجر والثواب.. وهذا أمر نحسب أن يجعله له الله في ميزان حسناته بإذنه تعالى، لقد عودتنا الابتلاءات بأن تكشف لنا عن معادن الرجال، وبرغم هذه الظروف العصيبة أتمنى أن تتاح لنا الفرصة لنفهم ونعي ونعرف الذين من حولنا، من حيث المواقف والتكليف، وأتمنى أن يقوم كل فرد بأداء دوره المطلوب بكل سعة صدر وتواضع، إن كنا نؤمن بعاقبة الأمور وليتنا نسير على نهج راحلنا العزيز علينا، فهل من مجيب لسؤال يلح علينا.. هل يأتي الزمان بمثله في الصلة والتواصل والكرم، وتعامل غير مصطنع، وهل فينا القادر على حمل هذه الرسالة ويملأ هذا الفراغ الهائل الذي خلفه رجل لم يسعَ وراء دوافع دنيوية، وأهداف شخصية، ولم يستصحب حالة الغفلة بل كان يرى الأشياء بعين البصيرة كحالة الموت والحياة، ولم تسلبه الدنيا من الهيبة ولا المكانة التي تربع عليها، ولم تبعده عن واقعه، لأنه والله يؤمن بأن مقاليد الأمور هي بيد رب السماء، إذن وجب على الناس أن يستلهموا العبر والدروس، من رجل ظل صامداً وصابراً وظل شامخاً وقوياً لم يقعده الداء ولم يشتك منه، تنفعل أعماقه وتشتعل بالحب والود وبالشعور الفريد.. فعز علينا الفراق وقلة صبرنا على الصبر، ما كان كُفر وتلفحنا بثوب الحزن والأسى، ما كنا في حالة جنون عند سماعنا النبأ الأليم، وبالرغم من فداحة المصيبة وهول الفاجعة، وبعد الرضا بقضاء الله وقدره سيطر علينا اليقين وشعرنا بالعزة والزهو والفخر، عندما تقاطرت تلك الجموع الغفيرة التي تسارعت من كل حدب وصوب لتشارك في التشييع، الذي لم يسبق له مثيل، وشبهه أخونا الشيخ الصافي جعفر بجنازة الشهيد الزبير، ولم يسبق لذاك الحشد مثيل في تاريخ مقابر الكدرو، فاطمأنت قلوبنا وسكنت جراحنا، ورددنا في السر والعلن وجبت وجبت لصاحبنا الجنة بإذن الله. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنه، واغفر له وأرحمه برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم أجعله من أصحاب اليمين واجعل قبره روضاً من رياض الجنة، واجعل الجنة مثواه والبركة في ذريته، وأنعم عليهم وعلينا بالصبر الجميل يا مالك الملك ياذا الجلال والإكرام.