زارنا أحد أبناء عمومة معارفي.. من المقيمين بالاسكندرية بمصر، ومن المهاجرين للعمل بأمريكا فترة من الزمن.. ولما تبادلنا الحديث وتطرقنا الى مشاريعه، حكى لنا الأخ مبارك كيف أنه قرر شراء منزل بالسودان تنفيذاً لرغبة الوالدة.. وهاله إن ثمن قطعة أرض درجة أولى في الخرطوم وليس حولها- أي عمران كما يحكى هو.. ثمن القطعة أكثر من مائة الف دولار، وبطريقته الممراحة حكى لنا مبارك كيف أن هذا المبلغ يمكن أن يشتري بيتاً كبيراً في الاسكندرية أو شقة محترمة في المهندسين أو الزمالك بالقاهرة.. بل شراء بيت معتبر في أمريكا. حقيقة هذه الونسة العابرة خطيرة، غلاء أسعار العقارات في السودان بما يتطلب دراسة عاجلة للأمر.. هذه الفكرة لمعت أكثر في ذهني، وأنا أطالع مقالات عن نشاط البنجلاديشي (محمد يونس) الذي حصل على جائزة نوبل للسلام عام 2006 بإنشائه بنوكاً للفقراء. في معرض الحديث عن القروض التى تقدم للفقراء.. حكت بنغلاديشية أنها بقرض بلغ 30 دولاراً «ثلاثون دولاراً» فقط لاغير استطاعت أن تبني مشروعاً منتجاً ازدهر ونما.. والمشروع هو شراء ركشة لزوجها وإنشاء حوض لاستزراع الأسماك.. هالني أيضاً التقدير حتى أصبحت أبحث عن خطأ فربما كان المبلغ ثلاثمائة.. وأيضاً (ضربت) على ذلك. فتعالوا نتعامل مع المبلغ حسب المصدر إنه ثلاثون دولاراً.. فهو بما يعادل بالسوداني- وبعد تخفيض الدولار أو انخفاضه- والفرق كبير بينهما.. فالانخفاض يتم حسب آليات السوق وحركة العملة الطبيعية، أما التخفيض فهو يتم بفعل فاعل أو بسبب عامل ماعلينا أن تضريب المبلغ بالسوداني يكون (ثلاثة وستين جنيهاً) وهو مبلغ مضحك مقابل ركشة وحوض استزراع أسماك. عموماً واضح أن هواجسي شعبت الموضوع، لكن الحقيقي المفجع أن المبلغ ثلاثون دولاراً فقط لا غير.. تقيم مشروعاً قيمة إنشائه في السودان ضعف ذلك بكثير وكثير جداً. قر في ذهني أن اقتصادنا انبنى على شفاهية أو مجانية، ثم سرنا على هذا الدرب حتى أصبحت عملتنا هزيلة.. وفكرنا الأقتصادي غير منتج، وهو يتجه الى العقارات واقتصاد الخدمات، ويفر من التصنيع والزراعة والصيد وغيرها من المشاريع المنتجة.. رأس المال يدور في بناء غابات من الأسمنت.. أبراج وفيلل وشقق.. معظمها أكبر من حجم الأسر السودانية.. ولا أفهم أن يقتني بعل وزوجته، وابن وابنه عمارة شاهقة ذات أربعة أوخمسة طوابق، تكفي لإسكان عشرة عوائل.. فهذا ضد الاستثمار وضد مبدأ ترشيد الثروة.. إلا إذا كنا نعمل بمبدأ (سيد الحناء) ألا يستحق الأمر دراسة.. وللأسف إمعاناً في التشويش، أتساءل هل فعلاً نحن من أغلى بلاد العالم خاصة في العقارات وأسعار الأراضي.. وإن ذلك لا يتسق مع الأراضي الشاسعة التي حبانا بها الله.. وأن بنوك الفقراء عندنا لو قامت فهل تستطيع أن تنهض بالفقراء إذا كان القرض يبلغ مائة دولار والتي كانت تنهض بملايين الفقراء الذين استهدفهم بنك الفقراء الذي أنشأه محمد يونس إن قرضاً قيمته مائة دولار مايعادل ستمائة جنيه لا يقيم هنا أي مشروع، بل إذا اعتبرنا المشروع مثل مشروع المرأة البنجلاديشية (ركشة وحوض زراعة اسماك)، فإن ذلك يحتاج الى أكثر من خمسين ألف جنيه «مليون بالقديم».. فعلى ذلك لكي تنهض بمليون فقير سوداني تحتاج الى عشرة مليارات دولار، وهو مبلغ كبير جداً على البنوك عموماً، وليست بنوك الفقراء..!