قرأت لك :«العقرب السام» .. عمر سليمان ! ( 3-1 ) كان آخر ما دفعت به المطابع ودور النشر المصرية الأسبوع الماضي هو كتاب الصحافي والكاتب المعروف د . محمد الباز، الذي جاء تحت عنوان «العقرب السام.. عمر سليمان رجل المخابرات الغامض» وأحتلت صورة وجه عمر سليمان بعينيه الجاحظتين وملامحه الصارمة الغلاف بشكل كامل.. الكتاب الصادر عن دار«كنوز للنشر والتوزيع» يقع في 280 صفحة من القطع المتوسط وعشرة فصول ومقدمة.. و بالنظر لأهمية الكتاب من حيث موضوعه الذي هو عمر سليمان بكل ما يعنيه في العقود الأخيرة من حياة مصر وتاريخها السياسي وعلاقاتها الدولية ولطريقة الكتابة والعرض الموضوعي الموثق، والأسلوب المشوق الصحفي للكاتب، فقد وجدتني منكباً على الكتاب لأيام متوالية حتى فرغت منه لأبدأ الكتابة عنه، واستعراض أهم ما جاء فيه، إشراكاً لقراء «الإضاءات» في الإطلاع على ما حواه من معلومات مهمة وما طرحه من تساؤلات. لكن قبل ذلك، أود الإشارة إلى أن عنوان الكتاب لم يكن موفقاً، أو على الأقل لم يعجبني أو يشدني كعنوان جاذب، فبعد الإطلاع طافت بذهني مجموعة من العناوين ربما تكون أكثر موضوعية وأكثر توفيقاً لو صرف الكاتب الباز النظر عن حكاية«العقرب السام» هذه التي استلفها من وصف «الجماعات الإسلامية» الأثير للرجل لإدراكها خطورته عليها واستكانت لكل ما فعله دون أن تستطيع أن تثبت شيئاً عليه كما ورد في صفحة(148)، وتعبير «العقرب السام» استوقفني في حد ذاته، فهي المرة الأولى التي أسمع أو أقرأ فيها عن عقرب سام وعقارب أخرى غير سامة، فكل العقارب في بلادنا- ريفاً وحضر- سامة وبعض لسعاتها قاتلة، ولا أدري سبباً وجيهاً لإتخاذ هذا اللقب من جانب الكاتب لتوصيف «الجماعات» عنواناً لكتابه، خصوصاً وهو ليس من المنتمين لهذه الجماعات، بل أكثر من ذلك من المعارضين لها بحكم ما نطالعه في كتاباته في جريدة «الفجر» الإسبوعية، وكانت مادة الكتاب يمكن أن تعطيه خيارات أوسع وأوفق لإختيار عنوان أكثر جاذبية وأرسخ موضوعية من مثل «عمر سليمان .. لغز الحياة والموت» أو«عمر سليمان .. سؤال بلا إجابة حياً وميتاً» أو شيء من هذا القبيل. الكتاب في مجمله هو طرح للتساؤلات حول رحيل عمر سليمان المفاجئ في مستشفي كليفورلاند بالولايات المتحدة والإحتمالات والسيناريوهات والتصورات المتصلة بذلك الرحيل، وكذلك التساؤلات المتصلة بحياة الرجل الغامض، وأسلوب عمله، ودوره في نظام مبارك كأهم معاونيه على مدى عقدين من الزمان، وكلها تساؤلات لا تجد أجوبة شافية أو قاطعة لا من شهادات من كتبوا أو قالوا أو من جانب الكاتب الباز، الذي كان صريحاً منذ البداية أنه لا يطمح في أن يقدم لقارئه مثل تلك الإجابات حول شخصية يمثل الغموض والكتمان أهم مقوماتها، لأسباب واقعية وموضوعية تتصل بمهنة الرجل «كجنرال مخابرات»، أو لأسباب تتعلق بمزاياه الذاتية، وربما بكيفية نشأته وتربيته التي كرسها تدريبه في مراحل تطوره المهني العسكري والإستخباري... لذلك سنقسم عرضنا للكتاب على ثلاث حلقات: الأولى حول الأسئلة المطروحة حول رحيل عمر سليمان المفاجئ في مشفاه الأمريكي، والثانية حول دور عمر سليمان في الحياة السياسية والأمنية لمصر في ظل حكم حسني مبارك، و الثالثة حول مواقف الرجل خلال ثورة 25 يناير التي أطاحت بحكم مبارك الذي إختاره نائباً للرئيس في اللحظات الفارقة في عمر النظام. يتساءل الباز في مقدمته التي عنونها ب «تساؤلات مشروعة» بالقول: هل كان منطقياً أن يموت عمر سليمان أولاً.. فقد كان الرجل الأقل حملاً والأخف وزناً.. والأوفر حظاً من رفاق طريقه داخل نظام مبارك، فرغم أنه كان الرجل الثاني قولاً وفعلاً في دولة دانت لأصحابها بكل ألوان القهر.. إلا أنه خرج منها كفافاً لا له ولا عليه، ولو أنه لم يقترب من انتخابات الرئاسة طارحاً أسمه فيها بقوة، ما ناله أحد بسوء أو بكلمة.. وهذا تقدير للكاتب قد يكون صحيحاً من وجهة النظر الآنية، لكنه قطعاً لا علاقة له بكتابة التاريخ في المستقبل، الذي سيعالج موضوع عمر سليمان ودوره في الحياة المصرية، سواء طرح نفسه مرشحاً رئاسياً أو لم يفعل. الأسباب التي جعلت الكاتب يطرح سؤاله هل كان منطقياً أن يموت عمر سليمان أولاً، هي أسباب معقوله- نتفق فيها معه- فكثيرون غيره كانوا أولى بهذه النهاية السريعة الغامضة، كما قال.. مبارك الذي يعاني أمراضاً حقيقية والذي تهاوت دولته أمام عينيه ورأى أولاده يسجنون إلى جانبه والذي ضاع منه تاريخه كله بغتة، رغم ذلك استمر يعافر وكأنه قرر العيش إلى الأبد وكذلك عدد من حالة الطاعنين في السن، زكريا عزمي وصفوت الشريف، وفتحي سرور، وحبيب العادلي، خرجوا من سجنهم في مزرعة طرة ليجروا عمليات جراحية بعضها خطير، لكنهم يعودوا بعدها ربما أكثر صحة مما كانوا، وعمر سليمان- شخصياً- وبخلافهم كلهم لم يتعرض للضغوط التي تعرض لها مبارك ورجاله هؤلاء لم يجلس أمام محقق يسأله ويستجوبه ويتهمه بالفساد و قتل المتظاهرين ذهب إلى النيابة معززاً مكرماً ليلقي بشهادته عن الإتهامات الموجهة لمبارك.. ولم يجد نفسه كغيره من رجال الرئيس سجيناً بلا حول ولا قوة . ابتعد عمر سليمان عن كل ما يمكن أن يهزه نفسياً أو يهزمه روحياً.. عندما قرر أن يعتزل الناس- فور سقوط النظام- فعلها دون أن يطارده أحد.. وعندما أراد أن يطل بوجهه مرة أخرى على الناس وجد من يسانده، بل ذهب آلاف المصريين إليه ليرشح نفسه في الإنتخابات الرئاسية، فقد مثل- بالحق أو الباطل- الأمل الأخير للخائفين على مصر من اختطافها لصالح فريق سياسي يقصي الآخرين وعندما قرر السفر لم يعترض طريقه أحد، بل انتقل بين أبو ظبي و ألمانيا والولايات المتحدةالأمريكية التي عاد منها جثة هامدة على نحو مفاجئ، لكن رغم ذلك قيل إنه مات لأنه لم يتحمل نفسياً ما جرى لمصر وما يتوقع حدوثه في المستقبل القريب. ينقل الكاتب إفادة مدير مكتبه «حسين كمال» حول موته المباغت عندما سئل عما إذا كانت وفاة عمر سليمان لأسباب نفسية، حيث قال كمال نصاً.. ما كان يعانيه سليمان لم يصل إلى مرحلة الإكتئاب التي تحتاج إلى الطب النفسي للعلاج، لكن حالته النفسية كانت سيئة شأنه شأن معظم المصريين القلقين من المجهول، وما ينتظر مصر من مصير لا يعلمه إلا الله، لكن الكاتب يشير إلى أن حسين كمال تحدث كثيراً ووقع في متناقضات كثير، بعضه يبدو في ما أدلى به لمجلة «المصور» حيث قال : «معلوماتي المؤكدة أن اللواء عمر سليمان لم يكن مصاباً بأية أمراض قبل الثورة، ولكن تصوري أن الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد انعكست على حالته النفسية، أدت إلى إصابته ببعض الأمراض العضوية خلال الستة شهور الأخيرة، لدرجة أنه كان لا يأكل وأصيب بحالة من الهزال والضعف الشديد، أنقصت وزنه نحو 10 كيلو جرامات لعدم قدرته على البلع، ثم ظهرت بعض المشكلات في الرئة سافر على أثرها إلى ألمانيا وأزال كمية من المياه من الرئة، ولكن عندما تكرر الأمر أضطر إلى السفر إلى مستشفى كليفلاند بالولايات المتحدةالأمريكية باعتباره المستشفى الأكثر تخصصاً». من هذه المتناقضات التي وقع فيها مدير مكتب سليمان هو قوله ل «المصور»: ليس لدي معلومات عن محاولة إغتياله في المستشفي الأمريكي الذي كان يعالج به، ولكن على من عنده معلومات أو حتى شكوك أن يتقدم بها إلى النائب العام فوراً لكشف الحقيقة، لأن سليمان رمز مصري يجب معرفة ملابسات وفاته «بينما تجده في الوقت ذاته في حوار مع مجلة الإذاعة والتليفزيون يرد على سؤالها عما إذا كان يستبعد، أن يكون سبب الوفاة غير طبيعي.. بقوله: لا أستبعد وهناك شكوك لكن لأبد أن يكون لها أساس ودلائل «ويخلص الباز من شهادة كمال حسين إلى أن الرجل المقرب من عمر سليمان لا يعرف الكثير، وهو حال من اجتهدوا أيضاً في معرفة ملابسات نهاية الرجل التي جاءت مفاجئة للجميع، وليطرح سليمان السؤال المركب والمربك: هل مات عمر سليمان مقتولاً؟.. هل أغتالوا الرجل لأن دوره إنتهى؟ .. وإذا كان هذا فمتى و أين؟.. وهل من المنطقي أن يقع رجل المخابرات العتيد بسهولة هكذا؟.. ومن المستفيد من اختفاء عمر سليمان على الساحة السياسية المصرية أو العالمية، وينصرف هم الكاتب ليس لتقديم إجابات شافية لمثل هذه الأسئلة العويصة، لكنه كما قال يحاول تقديم الجانب الأكبر من الصورة التي يريد الجميع طمسها لأسباب معروفة .