أكتب من وجدان إنساني شريف.. من محبرة النزيف.. من الدم الذي انبثق حاراً يغرغر في صدور الرجال الشرفاء الذين لمعوا كما الشهب وتفجروا كما النيازك.. وكتبوا بأجسادهم المطوحة فوق شرفات هذا العالم أرقَّ كلمات الحنين الى الزمن الآتي.. وأنا عندما تضيق بي الأرض بما رحبت، وعندما أصعد الى أسفل حتى أصطلي بالجحيم، وعندما «تتقفل قِبل الله الأربع في وجهي» عند حافة اليأس تلك والإحباط.. ألوذ الى «مكتبتي» أعيد قراءة ملاحم وبطولات أصدقائي في الإنسانية الشاهقة.. لأتنفس ويملأ الأكسجين رئتي.. أتوازن وأنسى الدنيا وكل ما حولي.. وقبل أيام خلت اجتاحني هوج رياح اليأس وخماسين الإحباط.. اندفعت مسرعاً.. ومن «طرف» المكتبة أخذت كتاباً قرأته- ألف مرة- مرة باكياً ومرات فخوراً.. ومرات سعيداً.. ومرات ثائراً.. وكان الكتاب عن سلفادور الليندي الرئيس الشيلي الماركسي المنتخب.. الذي اغتاله في وحشية وبربرية انقلاب فاشي.. قاده عميل اليانكي وصنيعة البيت الأبيض «بينو شيت».. وقبل الخوض في حقول النار تلك.. التي مشى فيها حافياً المقاتل الشهيد.. تذكرت سؤالاً قبل عشرين سنة وتزيد، سألني إياه ابني محمد.. فقد كنت وما زلت أزين الحجرة التي بها أنام.. فقط بأربع صور.. تحتل كل صورة جداراً من الحجرة.. كنت أضع صور «جيفارا وكاسترو ولوممبا وسلفادور الليندي».. كنت أحس بأن هذه الصور تحرسني وتفرط فوق رأسي مظلة من الأمن والاطمئنان.. كانت هذه الصور هي آخر ما أشاهد قبل أن أغمض عيوني، ونفس تلك الصور هي أول ما أشاهد عند إشراق كل صباح.. سألني يوماً ابني محمد- وهو يشير الى صورة سلفادور الليندي- من هذا يا أبي؟ أجبته فخوراً: هذا عمك سلفادور الليندي كان شوكة سامة زرعها شعب شيلي المجيد في خاصرة البيت الأبيض الصفيق.. حاصرته أحذية اليانكي وسنابك خيول عملاء اليانكي.. حاصرته المجنزرات في قصر الرئاسة.. رفض عرض الهيلكوبتر والتخلي عن شعبه العنيد.. رفض نداء مكبرات الصوت.. رفض عرض اللجوء الجبان والعيش وهو طريد.. حمل مدفعه ودع ابنته قبلها ثلاثاً ثم تمزق جسده بالرصاص.. أتمنى لك يا بني نفس المصير لتبقى صورتك في كل الحجرات.. في كل الطرقات.. وأعود الى تلك الملحمة والمأثرة التي خلدها التاريخ والليندي يراهن على أن دمه سوف يروي أرضاً.. ويطرح ثمراً.. والنبوءة تتحقق.. وصحيح الوحش يقتل ثائراً والأرض تنبت ألف ثائر.. ويا لكبرياء الجرح.. لو متنا لحاربت المقابر.. وتشرق شمس الحق وبعد أربعين سنة وتزيد التاريخ يعقد محكمة للجنرال بينو شيت.. ذاك الذي ادعى الجنون.. أنه جثة متعفنة تمشي على الأرض.. وكلمات بابلو نيرودا تجلجل وصداها يعم الأرض.. ويا لروعة الصمود.. ويا لعار القتلة والمجرمين ويا لبهاء كلمات نيرودا.. نيكسون فري.. بينوشيت (حتى اليوم حتى هذا الشهر المر أيتها الضباع المفترسة لتاريخنا القاضمة لأمجاد كسبناها بمثل هذه الدماء الغزيرة والنيران الكثيفة.. يا من تلوثوا بفضلاتهم.. يا وحوش القنص.. يا عملاء بيعوا ألف مرة.. يا خونة أثارتهم ذئاب نيويورك.. يا آلات العذاب تتوق ملونة بتضحيات شعوبهم الشهيدة.. يا تجارا لدعارة بخبز وهواء الأمريكتين.. يا قذارة.. يا جلادين.. يا قطيع قوادي بيوت الدعارة بلا قانون.. إلا قانون التعذيب وجوع الشعب المحبط). بابلو نيرودا يا للمفارقة.. سلفادور يتصدى للانقلاب متأبطاً مدفعه يدافع عن القصر حتى الموت.. يرفض كل عرض يحفظ الحياة.. يرفض الملاذ الآمن.. يقاتل حتى تمزق بالرصاص.. وهنا وعند أول مارش.. يهرب وزير داخلية آخر حكومة ديمقراطية دفاعاً عن (روحه).. يا للعار!! الآن يا أحبة هل عرفتم الفرق بين بيض الطير والقبب.. الآن هل عرفتم تلك المساحة والتي هي بمسيرة عام.. وبطائرة كونكورد بين سلفادور ومبارك الفاضل.. وأقسم بالشعب والأيام الصعبة أن لو خيرت بين الإنقاذ ونظام ديمقراطي أحد أعمدته مبارك الفاضل لاخترت الإنقاذ غير متردد لثانية واحدة.