نعود دون أي ملل لنكرر ونحكي بعض قصص الفقر في حواري الخرطوم تاركين القرى والبوادي البعيدة في كف عفريت!! *** عند دكان (بله) ود الجزيرة ذلك الشاب النحيف الصارم القسمات، الخفيض الصوت يجتمع حيارى الحلة، من شباب يبحث عن ساحة للتنفس بين تلك الأزقة الضيقة أو كبار سن يديرون اقتصادهم الجريح في الدكان بالبحث عن بضاعة رخيصة أو إستجرار لدين. غرقت همومهم في السعر الرخيص وتركوا السؤال عن البضاعة .لا يسأل أحد عن رغيف العيش المسموم بالكيماويات والمحسنات ولا عن وزنه المتآكل. لا يسألون عن الزيت المخلوط بالأولين المسرطن ولا عن اللبن المجفف السائب منتهي الصلاحية ولاعن اللبن الحليب المحقون بالبنسلين.. الكل يسأل في المساء عن السعر الذي اشترى به في الصباح هل تغير أم مازال في مكانه.. وكثيراً ما كان بله ود الجزيرة يعود من سوق اللفة وقد استهلك ثمن البضاعة الجديدة كل موارده القديمة. ولا يعرف شيئاً عن السبب سوى القول(السوق بقى كعب) وإذا تكلم أحدهم في (السياسة) ينظر إليه كأنه مجنون يهزي. فلا أحد هنا يتحدث في السياسة ومن يجرؤ على هذا يهربون منه كأنه جرو كلب أجرب!! - ما تجيب لينا هوا ..مكتب الأمن قريب. هكذا يرددون بصوت واحد وعندما تطمأنهم بالقول: ده أمن مجتمع ينظرون إليك بسخرية وأكثرهم ثقافة يتساءل بسخرية: أليس الكلام في السياسة من المهددات الأمنية في سياسات(الإنقاذ)؟ تصرخ امراة لتقطع علينا(نقاشنا الفارغ) بالقول- العِيشة أبتنا!! هكذا صرخت في وجه صاحب الدكان الذي ظل يلح عليها سداد دين قديم . جاءت تشتري سكراً وحبات معدودة من الشاي، القرارات الحكومية لم تضيع السعر فقط بل أضاعت الموازين ولم تعد تدري بماذا تسمي المقدار المطلوب:ربع رطل أم ربع كيلو أم (تُمْنة).المهم نقصت كمية السكر ولم تعد تملأ(السكرية) التي تكفي أبناءها الأربعة وزوجها عند شاي الصباح. حتى هذه(السكرية) تقلص حجمها هذه المرة. وعندما احتجت عن نقص الوزن. قالوا لها : سعر السكر زاد يا «حليمة» من الذي زاد سعر السكر : المصنع أم التاجر أم رسوم الحكومة ؟ والحكومة (خشم بيوت) هناك المحلية والمالية والجهات الأمنية. عندما يقال هذا لا أحد يملك شيئاً ليقوله. لا أحد يسأل خشية أن يصطدم بمسؤول حكومي لديه حصانة !! ولكي لا (يجيب لنفسو هوا) يقطع الخبر في مصارينو ويدفع . وقبل أن تبتلع هذه الجرعة المريرة ، تسلق أحد أبنائها الصغار ظهرها ، حاولت اسكاته بقطعة حلوى تناولتها من « بنك» الدكان دون أن تستأذن صاحب الدكان ولكنها فوجئت بآخر يبكي خارج الدكان. وهي بين هذا وذاك عاجلها بله بدين قديم، وهذا يعني أنه لن يرحمها بدين جديد. صمتت قليلاً ثم قطبت جبينها وألقت مافي أعماقها دفعة واحدة ، العيشة غلبتنا .. العيشة أبتنا . يا بله. - الله في يا أختي! هكذا حاول أن يواسيها . لأنها أيقظت في صاحب الدكان آخر جرعة ممكنة من التعاطف!! خرجت المسكينة دون أن تلوي على شيء ،فكلام صاحب الدكان كان أشبه بكلام علاقات عامة .. وإذا كان بالفعل يؤمن (بالله في) فلماذا «الشفقة» على الدِّيون!! لم يكن أمامها أن تنتظر مواساة من أحد، بل تبحث عن أوراق نقود تستر عورتها : المطلوب ليس فقط شاي الصباح الذي لا يغيب عنه اللبن وهي الآن لا تملك هذا الترف، بل سيعقبه كيس العيش .الملاح مقدور عليه ، بواقي(مويه الفول) يمكن أن تسد الرمق وعليها أن تنتظر نهاية (القدرة) ومن سوء حظ فقراء القدرة أن سموم البروتين النباتي في الفول تتجمع في موية البوش. كلما تقلصت أوزان العيش زاد عدد الأكياس . والعيش جاهز في أكياس لكي لا يختبر الشاري أوزانه وصلاحيته ولا يعرف مصدره، وأحياناً لإخفاء عدده ، فأغلب الأفران يستعينون بالمحسنات القاتلة للتلاعب بالأوزان.حتى هذا العيش المسموم لم يكن متاحاً في كل الأوقات. الرجل يعمل في شركة تعبئة للمياه يعود مجرجراً قدميه بعد هبوط الظلام . عندما تسأله عن أسباب التأخير كان لا يقدم تبريراً مقنعاً ولكن عندما بدأت تنكشف الأسباب بالملاحقات والطرق على الباب اعترف لها . أن اليومية لن تكفيهم اذا دفع لأصحاب البقالات لهذا يفضل دخول (الحارة) ليلاً ، وأحياناً يخرج قبل الشروق لأنه لو تأخر ستلاحقه المطالبات ، كل المنافذ أمامه مسدودة . دكان شيخ إسحاق الفوراوي يغلق المنفذ الشرقي وخليفة ود الجزيرة ينتظره في غرب الشارع! - عشرين ألف بتعمل شنو؟ - أحمدي الله يا وليه! - رسوم المدرسة ياراجل . - ما قالوا ما في رسوم. كان المسكين يعلم أكثر من غيره أنها أكاذيب سياسية ، حتى لو صدقت فإنها مجانية مسمومة بخدمة رديئة في مستشفي حكومي أو مدرسة حكومية ، كان عليه أن يتوارى خلف حجة ما..! ولكن لم يسعفه الهروب. لأن الزوجة كانت تتعامل مع الوقائع على الأرض. - اقطعي رسوم الطباشير من حق الفطور يا وليه . لم تقتنع الزوجة بهذا الحل لأن حق الفطور نفسه كان أحياناً في كف عفريت ! ما كان أمامها إلا أن تخرج من أعماقها تلك الدفقة الساخنة التي إعتادت عليها لتتخلص من سموم المعيشة الحارقة. تنهدت طويلاً ثم حدقت في اللا شيء ثم بصوت خفيض خاطبت نفسها: العيشة غلبتنا !! أحياناً هذه الدفقة المرة لم تكن كافية ، لهذا كانت تزيد من التقريظ للرجل وتحمله المسؤولية وهي تدرك شقاءه.واذا سئم الرجل من كلامها، كان ينفجر فيها: أنا في السوق ..إنت عارفه الرفع سعر السكر ده منو؟ رفعته امرأة تتاجر في السوق بالجمعيات الخيرية وتلعب بالسكر . من القرش والقرشين تكسب مليارات.حكومة فاشلة عايشة على جيوب الغلابا!! وعندما تستمع و هي فاغره فاها يزيدها في الكلام : يا حجة ما في(راجل ولا مره) في مكايدة المعيشة !! تعتدل الزوجة وبهدوء ترد: إن لم يكن زوجها سياسياً أو وزيراً..هل كانت هذه المرأة ستلعب كل هذا الدور وجاهة منطق المرأة يعيد الكرة في ملعب الزوج وتجعله يبتلع الإهانة..ولكنها عندما ترى انكساره تخفف عليه بصرختها المعهودة. العيشة غلبتنا والله يجازي الكان السبب !! هكذا ظلت(حليمة) تغالب الفقر وأطفالها يزدادون عدداً أكبرهم تجده مرة في المدرسة وأخرى مطروداً في«ضل» الضحي، وما في طريقة(للزكاة) لأنهم يشترطون (موت الأب)!!!. فجأةً عنت لها فكرة وهي- أن يعمل اكبر الأطفال. ويصرخ الزوج في وجهها: حتشغيلهو شنو يا وليه؟ - سواق ركشه أو كمساري هايس. وهكذا كانت تحلم قبل أيام معدودة من إخلائهم منزل الإيجار. وتلك قصة أخرى: انتهز صاحب الدار إنهيار المرحاض وطلب منهم أن يحفروا البئر على حسابهم ويقطعوا من الإيجار وهو يعلم قدراتهم ليتخلص منهم. وبالفعل رجعوا الى أجواف الكلاكلات المظلمة، وانقطعت أخبارهم! بعد سنوات طويلة قفزت القصة في الذاكرة عندما وجدت المقولة منقوشة على ظهر ركشة «العيشة غلبتنا». سألت نفسي هل السائق أحد أبناء حليمة والذين تركناهم صغاراً أم أن الفقر عضانا جميعاً وأصبحنا كلنا حليمة؟!. والله يجازي الكان السبب!!