* هكذا صرخت إحداهن في دكان الفوراوي!! * وجدتها منقوشة على ظهر ركشة هكذا نطقت امرأة في وجه صاحب الدكان الذي ظل يلح عليها لسداد دين قديم، جاءت تشتري سكراً وحبات معدودة من الشاي، القرارات الحكومية لم تضيع السعر فقط، بل أضاعت الموازين ولم تعد تدري بماذا تسمي المقدار المطلوب: ربع رطل أم ربع كيلو، المهم نقصت كمية السكر ولم تعد تملأ (السكرية) التي تكفي أبناءها الأربعة وزوجها عند شاي الصباح. حتى هذه (السكرية) تقلص حجمها هذه المرة، وعندما احتجت عن نقص الوزن. قالوا لها: سعر السكر زاد يا (كتيرة). من الذي زاد سعر السكر: المصنع أم التاجر أم رسوم الحكومة؟ والحكومة (خشم بيوت)، هناك المحلية والمالية والجهات الأمنية. عندما يقال هذا لا أحد يملك شيئاً ليقوله، لا أحد يسأل خشية أن يصطدم بمسؤول حكومي لديه حصانة!! ولكي لا (يجيب لنفسو هوا) يقطع الخبر في (مصارينو) ويدفع. وقبل أن تبتلع هذه الجرعة المريرة، تسلق أحد أبنائها الصغار ظهرها، حاولت إسكاته بقطعة حلوى تناولتها من (بنك) الدكان دون أن تستأذن صاحب الدكان ولكنها فوجئت بآخر يبكي خارج الدكان. وهي بين هذا وذاك عالجها إسحاق الفوراوي بدين قديم وهذا يعني أنه لن يرحمها بدين جديد. صمتت قليلاً ثم قطبت جبينها وألقت ما في أعماقها دفعة واحدة، العيشة غلبتنا، العيشة أبتنا يا شيخ إسحاق. الله في يا بنتي! هكذا حاول أن يواسيها، لأنها أيقظت في صاحب الدكان آخر جرعة ممكنة من التعاطف!! خرجت المسكينة دون أن تلوي على شيء، فكلام صاحب الدكان كان أشبه بكلام علاقات عامة، وإذا كان بالفعل يؤمن (الله في) فلماذا (الشفقة) على الديون!! لم يكن أمامها أن تنتظر مواساة، بل تبحث عن أوراق نقود تستر عورتها: المطلوب ليس فقط شاي الصباح الذي لا يغيب عنه اللبن وهي الآن لا تملك هذا الترف، بل سيعقبه كيس العيش، الملاح مقدور عليه، بواقي ( مويه الفول) يمكن أن تسد الرمق وعليها أن تنتظر نهاية (القدرة)، ومن سوء حظ فقراء القدرة أن سموم البروتين النباتي في الفول تتجمع في موية البوش، كلما تقلصت أوزان العيش زاد عدد الأكياس، والعيش جاهز في أكياس لكي لا يختبر الشاري أوزانه ولا يعرف مصدره، وأحياناً لإخفاء عدده فأغلب الأفران يستعينون بالمحسنات القاتلة للتلاعب بالأوزان حتى هذا العيش المسموم لم يكن متاحاً في كل الأوقات. ..الرجل يعمل في شركة تعبئة للمياه يعود مجرجراً قدميه بعد هبوط الظلام، عندما تسأله عن أسباب التأخير كان لا يقدم تبريراً مقنعاً ولكن عندما بدأت تنكشف الأسباب بالملاحقات والطرق على الباب اعترف لها أن اليومية لن تكفيهم إذا دفع لأصحاب البقالات لهذا يفضل دخول (الحارة)ليلاً ، وأحياناً يخرج قبل الشروق لأنه لو تأخر ستلاحقه المطالبات، كل المنافذ أمامه مسدودة. دكان شيخ إسحاق يغلق المنفذ الشرقي وخليفة ود الجزيرة تنتظره في غرب الشارع! - عشرون ألفاً بتعمل شنو؟ - أحمدي الله يا وليه! - رسوم المدرسة يا راجل . - ما قالوا ما في رسوم. كان المسكين يعلم أكثر من غيره أنها أكاذيب سياسية، حتى لو صدقت فإنها مجانية مسمومة خدمة رديئة في مستشفى حكومي أو مدرسة حكومية ، كان عليه أن يتوارى خلف حجة ما ولكن لم يسعفه الهروب، لأن الزوجة كانت تتعامل مع الوقائع على الأرض. - أقطعي رسوم الطباشير من حق الفطور يا وليه، لم تقتنع الزوجة بهذا الحل لأن حق الفطور نفسه كان أحياناً في كف عفريت! ما كان أمامها إلا أن تخرج من أعماقها تلك الدفقة الساخنة لتتخلص من سموم المعيشة الحارقة. تنهدت طويلاً ثم حدقت في اللا شيء ثم بصوت خفيض خاطبت نفسها العيشة غلبتنا !! أحياناً هذه الدفقة المرة لم تكن كافية، لهذا كانت تزيد من التقريظ للرجل وتحميله المسؤولية وهي تدرك شقاءه. وإذا سئم الرجل من كلامها، كان ينفجر فيها. أنا في السوق، أنت عارفة الرفع سعر السكر ده منو؟، رفعته امرأة تتاجر في السوق بالجمعيات الخيرية وتلعب بالسكر، من القرش والقرشين تكسب مليارات، وعندما تستمع فاغرة فاها يزيدها كلاماً: يا حجة ما في (راجل ولا مره) في مكابدة المعيشة !! تعتدل الزوجة وبهدوء ترد: إن لم يكن زوجها سياسياً أو وزيراً، هل كانت هذه المرأة ستلعب كل هذا الدور، وجاهة منطق المرأة تعيد الكرة في ملعب الزوج وتجعله يبتلع الإهانة ولكنها عندما ترى انكساره تخفف عليه بصرختها المعهودة. العيشة غلبتنا والله يجازي الكان السبب!! ...هكذا ظلت (كتيرة) تغالب الفقر وأطفالها يزدادون عدداً، أكبرهم تجده مرة في المدرسة وأخرى مطروداً في (ضل) الضحى، وما في طريقة (للزكاة)، لأنهم يشترطون (موت الأب)! فجأة عنت لها فكرة وهي أن يعمل أكبر الأطفال. ويصرخ الزوج في وجهها: حتشغيلهو شنو يا وليه؟ - سواق ركشة أو كمساري هايس. وهكذا كانت تحلم قبل أيام معدودة من إخلائهم منزل الإيجار، انتهز صاحب الدار الفرصة وطلب منهم أن يحفروا البئر على حسابهم ويقطعوا من الإيجار ما لم يكن هناك سبيل، لانهيار المرحاض وأراد أن يتخلص منهم. وبالفعل رجعوا إلى أجواف الكلاكلات المظلمة، وانقطعت أخبارهم. بعد سنوات طويلة قفزت القصة في حلق الذاكرة عندما وجدت المقولة منقوشة على ظهر ركشة (العيشة غلبتنا). سألت نفسي هل السائق أحد أبناء (كتيرة) والذين تركناهم صغاراً، أم أن حالة الفقر (عضتنا) جميعاً ولكننا أصبحنا نغالب معيشة (كتيرة)؟ كل شيء ممكن وقد أظلتنا جميعاً ولم تعد ( كتيرة) وحدها صاحبة الوجه والله يجازي الكان السبب!!