غَلا السِعرُ غُلُوَّاً وغلاءً أي زاد وارتفع.. وغلاء «جاوز الحد».. فهو غالٍ وغَلِيّ.. وغلا فلان في الأمر والدين تشدد فيه وجاوز الحد وأفرط فهو غالٍ.. والجمع «غُلاةٌ».. وأُغلى الشيء «بالفتح» وجده غالياً فتركه، وأغلى السعرَ «بالفتح» رفعه وجعله غالياً.. والغالي خلاف الرخيص يقولون «الغالي بى غلاتو.. يضوِّقك حلاتو.. والرخيص بى رخصتو.. يضوِّقك مغصتو».. هذا قبل أن يكون كل شيء غالياً.. وليس هناك شيء رخيص.. حتَّى الذي يضوِّقك مغصتو.. فقد أصبح غالياً وفوق طاقتك.. ويسمونه.. التجاري أو «ت..» على اسم بلد المنشأ.. و«الغالية» هي أخلاط من الطيب والمسك والعنبر.. ولأن هذه أيضاً بلغت ما بلغت من الغلاء.. فقد تفشت بين الفتيات ظاهرة ما يُعرَف ب «قدِّر ظروفك».. أي أن تُخلط أنواع من الطيب أو الكريمات.. المختلفة.. ويباع منها ما يكفي لاستعمال الفتاة لمرة واحدة وبسعر يمكنها دفعة.. وكان الحبيب أو «الخالط» أو الخاطب يقول لمحبوبته «حبيتي الغالية».. فقد كان كل شيء رخيص الثمن ومقدر عليه إلا الحبيبة.. فهي غالية في عينيه وقلبه.. لا يبلغ «غلاوتها» شيء.. أمَّا اليوم فيحق له أن يناجيها «يابعيدة المنال».. فكل شيء يُقصيها عنه.. ابتداء من غلاء المهور.. فارتفاع سعر الذهب الذي لابد من تقديم شيء منه للعروسة.. بحكم العادة.. فالشيلة التي تقصم ظهر «الشائل».. فالمواد التموينية.. ثم الفنان الذي يتبارون في اختياره حسب أسمه.. وغُلو «رسومه».. وهم لا يسمعون منه كلمات أغانيه.. فالذي يُهمهم هو الرقص الهستيري مع الايقاع المنبعث من «الساوند سيستم» تقول رواية أن أحد الفنانين الشباب.. سُئل عن رسومه التي يتقاضاها عن الحفل فرد ببساطة «ماكتيره.. عشراية بس..» أي عشرة ملايين فقط. وأن أحد الفنانين يقول عن نفسه «فلان لمن استطاع إليه سبيلا» .. وتتواصل تكلفة الحبيبة العروسة.. لتشمل الريحة.. والكوافير.. والفيديو والصور.. فحدث ولا حرج.. مما يجعل الحبيبة «الغالية» صعبة المنال.. ويصرف الشباب عن الزواج.. إلا من رحم ربي.. من الذين قال عنهم الشاعر «ومَنْ يطلب الحسناء لم يُغله المهر». وهناك غلاء متعمد يصنعه التاجر عندما تكون لديه سلعة اشتراها في وقت وفرتها بسعر رخيص واختزنها لموسم الندرة.. ثم أطلقها في السوق بسعر يحدده هو.. طال انتظاره إياه.. ومن أساليبهم أيضاً أنه إذا كانت لديه سلعة كسدت سوقها.. أن يطلق سماسرة في السوق.. يطلبون شراءها بسعر مُغر.. وهي غير متوفرة في السوق.. فَيَجِدّ التجار في البحث عنها.. حتَّى يعلموا أنها لدى التاجر فلان.. فيهرعون إليه مشترين.. وبالسعر الذي يحدده هو.. وهناك غلاء بالتحايل.. كسحب رغيف من كيس الرغيف وبيعه بنفس السعر القديم.. أو أن تشتري صفيحة من الطماطم.. وعند تفريغها تجد بداخلها «قش» لأكثر من نصفها.. وتكتشف أن البائع باعك نصف صفيحة بسعر الصفيحة الكاملة.. وبائع اللحم يوزن لك من العظام و «الجلافيط» أكثر من وزن اللحم.. وصفيحة «الجبنة» بها من الماء أكثر من وزن الجبنة.. وهكذا.. وغلاء الأسعار والزيادة أصبحا غير منطقيين، فأنت تشتري الشيء بسعر اليوم.. وتفاجأ غداً بأن السعر قد زاد وبنسبة غير معقولة.. وذلك ما جعل المواطن الجنوبي «سابقاً» يقول لصاحب الدكان «يعني ما ننوم؟!» ولو أن بيتر رجع اليوم إلى الشمال.. لوجد أن الأسعار تتغير على رأس الساعة أو أقل.. ولظل طوال اليوم واقفاً أمام «الدكان» خشية أن تتغير الأسعار.. وعن محاربة الغلاء أو السلع الغالية.. أذكر ما كان من امتناع المستهلكين عن شراء اللحم قبل فترة ولمدة ثلاثة أيام.. أدت إلى نزول في أسعارها بعض الشيء.. ولكن ما إن انتهت الأيام الثلاثة.. حتَّى عاد الناس لشراء اللحم وبنفس الأسعار الغالية أو أكثر غلاءً.. فكأنك يا أبوزيد ماغزيت.. وأذكر بعد الاستقلال وفي إحدى الحكومات الوطنية كان الأستاذ عبد الماجد أبو حسبو وزيراً «لعله للتجارة» فزاد الرسوم الجمركية على السجائر.. وفي مقابلة صحفية سأله الصحفي ألا يؤدي ارتفاع الرسوم الجمركية إلى عزوف.. الناس عن التدخين وبذلك تفقدون دخلاً اعتمدتم عليه في الميزانية.. فضحك الرجل ورد عليه قائلاً التجارب علمتنا أن الناس عندما يرتفع سعر السلعة.. يعلنون احتجاجهم وتزمرهم.. وقد يمسكون عنها بضعة أيام.. ولكنهم يعودون ويقبلون على شرائها بحكم العادة.. وكثيراً ما تسمع أن الأسعار ارتفعت لأن الدولار «طلع» ولكن الغريب أنك لا تسمع أن الأسعار نزلت لأن الدولار «نزل».. فالتجار يتمسكون بالأسعار الطالعة.. زعماً بأنهم استوردوا هذه البضائع عندما كان الدولار مرتفعاً.. ويظلون على هذا الزعم. كنا مرة نتحدث عن هذا الأمر.. وكان بيننا الأخ عبود محمد ميرغني فقال مازحاً.. «مافي شيء طلع.. ثم نزل سعره.. المؤذن عملوا له ميكرفون ليؤذن من تحت.. خافوه يطلع ما ينزل تاني».. وكنا مرة أخرى نتحدث عن الغلاء.. كان بينا واحد من الذين يسمعون التعابير والمصطلحات فيستعملونها دون معرفة مدلولاتها.. فتمطي صاحبنا.. ثم أردف «بس نحن كان رخصت لنا هادي الكماليات.. تاني ما عندنا مشكلة.. تعجبنا وسألنا.. أي الكماليات يعني؟!.. قال بكل بساطة.. الدموريه.. العيش «يعني الذرة.. والسكر.. والشاي.. وجهه أحدنا أن هذه ضروريات وليست كماليات «كان هذا أيام الدموريه». وكانت جداتنا يستعملنَّ «الغلاء» بمعنى الجوع.. فكثيراً ما كنت أسمع جدتي- عليها الرحمة- تقول: «يابنات ما تدونا الفطور.. الغلا ما كلتنا» والسؤال الآن: من يراغب الأسعار بعد ما فرحونا بنزول الدولار.. ومن سيجيرنا من هذا الغلا الطاحن.. ويحمينا في هذا الغول الشره..!؟ ومتى سيطبق الضغط على الانفاق الحكومي.. وماذا سيفعل المغالون الرسميون في الانفاق على الاجتماعات، والندوات، والمؤتمرات، والامتيازات.. وحتَّى في الفطور الرسمي في المكاتب.. وفي السطر الأخير تحياتي للاخ الكاتب السلس مؤمن «الغالي».