وهذا هو عام الهجرة الجديد (1435) منذ أن طرق النبي المجاهد محمد (صلى الله عليه وسلم) طرق الباب على صاحبه (أبوبكر الصديق) فاندهش (أبوبكر) لزيارة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) له في بيته في وقت لا يظن هو أن أحداً سيأتيه فيه ولا أهل البيت.. ليعلمه النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قد أمر بالهجرة ليثرب (المدينة) فصدع (أبوبكر) يقول (الصحبة.. الصحبة) يارسول الله وهناك لدى الصديق (ناقتان) بمنزله.. ولما كان الطريق إلى المدينة شاقاً وذا منعرجات ومداخل.. وهو طويل حتى أن حجاج عصرنا الحاضر هذا يقطعونه عبر وادي (قدير) يقطعونه بالبصات والفواره في أزيد من (عشر) ساعات ناهيك عن تمهل الإبل أو السائر على قدميه.. ثم أن التهيب والحذر من الأيدي والأنفس الكافرة المتربصة يضيف مشقات أخرى.. وبالرؤية السريعة والحذر اتفقا الإثنان على دليل وخبير لكنه من الكافرين، وهو (عبد الله بن أريقط) ولم يتوان (أبوبكر) في علو الهمة والرفقة للرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو -أي أبوبكر- لم يكن يعلم شيئاً عن هذه الهجرة المباغتة والسفر الطويل إلا عند الزيارة هذه.. فخرجا بدليلهما من المنافذ الخلفية لبيت (أبي بكر الصديق) حذر أن تكون هناك أعين ترصد الأبواب والمخارج المعهودة.. وهي استراتيجية الحيطة واليقظة، ثم كانت التوقفات والمخابئ ثم عين وعناية الله العظيم المنان التي لا تنام.. وقعة الكهف والثعبان الذي سد منفذه (أبوبكر) بجسده.. وهو يقول للنبي (صلى الله عليه وسلم) فداك أبي وأمي وروحي.. والقوم بعد أن علموا بالمخطط وعلموا بخلو المنازل والمراقد والأسرة.. بدأ الكفار- كما تعلمون جميعكم- يتلاحقون ويرصدون الأموال والجوائز الفاخرة لمن يدلهم أو يقبض على محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو يخرج من مكة مهاجراً لمناصرة أهل المدينةالمنورة له في المجالدة والدعوة وبسط نور الإسلام.. ليقال لهم ولكم أنتم اليوم (أنفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم..) وبذات المنحنى الذي سبق به (جعفر) وصحبه وهم المهاجرون الأوائل حيث نزلوا بالسودان (أعالي نهر عطبرة).. كذلك كان الأنصار بالمدينةالمنورة يرصدون ويتابعون ويتهيأون لاستقبال المجتبى (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه ورفيقه في المنشط والمكره.. على راحلتيها وهما يرددون قوله (صلى الله عليه وسلم) لرفيقه (لا تحزن إن الله معنا) فمن كان الله معه لا يحزن ولا يخشى دركاً أو لحاقاً إذ كانت الخطة محكمة.. ومن رأي (ابن اريقط) الكافر لا يظن أن معه مؤمنين إثنين والله ثالثهما.. وكان شعار الخطة (هي لله هي لله).. والقصواء على سنامها وفوقها رسول البشرية وخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وسلم)، والناس تشرئب أعناقهم كل صباح ينتظرون القدوم المشرف.. وإقامة دولة بمدينتهم المباركة.. حتى أطل الركب فاصطفت المدينة يعلو هتافها ويصدع وينشد شبابها هكذا : طلع البدل علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع.. وتعلمون أن هذا الصدع بالمدينة كان قبل (ألف وأربعمائة عام) بالتقريب وهي ليست رحلة أو زيارة أو تواصل، وإنما هي انتقال بالدعوة والحكمة من مكةالمكرمة ليصلي الناس يوماً بالبيت الأبيض بأمريكا.. مثلما تصلون أنتم الآن بالمسجد الأبيض بقصركم الجمهوري بالخرطوم.. بل رفع أحدكم يوماً الأذان بين يدي بابا الفاتيكان.. وهو مهاجر وزاحف من الجزيرة المروية بالسودان.. فإذن مع الأسفار والإنتقال يجب أن تصحب كل الفعاليات في حناياها النية والهجرة لفعل الخيرات وسامي الغايات.. وإن قلنا إنما الأعمال بالنيات، فإن الهجرة الصادعة الصادقة هذه هي قبس يتوالى على الأمم المسلمة كل عام.. فإن أثبت آخرون واعتمدوا شواهد ساروا عليها كميلاد (المسيح) عليه السلام أو احتفوا بالظواهر الكونية، أو وقفوا جميعهم عند حدث صعودهم إلى القمر بالستينات وغير ذلك.. وتجاوز المسلمون ذلك الموقف الذي جاء فيه محمد (صلى الله عليه وسلم) لأمنا (خديجة) وهو يتصبب عرقاً من هول وضخامة المسؤولية من الله العلي القدير... وهو يقول صلى الله عليه وسلم زملوني.. زملوني.. دثروني.. أي غطوني.. من شدة الصدمة فتشجعه (خديجة) قائلة: (إن الله لن يخذيك أبداً) ليقول له الله مرة أخرى (... ما ودعك ربك وما قلى..) ووقفات عجيبة يجددها التاريخ إلا أن هجرته (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه (أبوبكر) من (مكة) إلى (المدينة) في غيوم وترصد المشركين ليصدع بقوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم..) وإن كانت الهجرة مثالاً متعاقباً.. فلنا نحن أن نهجر ونترك الفرقة والمواجهات.. سيما أننا نردد (هي لله.. هي لله.. لا للسلطة ولا للجاه).. وكذلك كما ابتدر أهلي القولد (هي للدين.. هي للدين.. لا للسلطة بل تمكين) فقولوا جميعاً (.. ولينصرن الله من ينصره... إن الله لقوي عزيز) والله أكبر.