شهد العالم بالعظمة الإنسانية للزعيم الجنوب الافريقي نيلسون مانديلا ، الذي أكتملت مراسم دفن جثمانه بالاثنين الخامس عشر من ديسمبر الجاري، بقرية ميلاده كونو بجنوب افريقيا، وقد كان موته في هدوء وسلام بعد عمر ناهز الخمسة والتسعين عاماً من النضال.. لقد قال الزعماء في العالم عنه أقوالاً أكدت نضاليته وتفوقه المبدئي في قضية إعلاء شأن المساواة الإنسانية والسياسية في بلده، وقد أضحى نضاله نموذجاً في دوائر حقوق الإنسان .. بل أن أبرز حكام العالم الرئيس الأمريكي باراك اوباما أعلن صراحة أن مانديلا كان قدوته المعاصرة . مثل كثير من القراء أطلعت على سيرة نضاله التى سطرها في كتابه الضخم رحلة طويلة نحو الحرية (باللغة الانجليزية)، وتوقفت طويلاً في الفصلين الأخيرين (التحدث الي العدو) و(الحرية).. لقد كانت مشاعر التأييد عندي بلغت حداً تجاوز الوصف، خاصة تلك المواقف الدقيقة التي كان يكشف فيها الجوانب الإنسانية في شخوص خصومه، إنه كان إنساناً رائعاً حقاً. عندما تم تحديد مواعيد له للقاء الرئيس بوتا الأشهر في التعالي العنصري، حدث نفسه في الطريق وهو السجين بخطة المقابلة، وقرر أنه لن يخطو الى مابعد وسط المكتب، وإذا ما أبدى بوتا تعاليه كرجل أبيض، فإن ذلك سيكون نهاية التفاوض.. مضى السجين في خطته، بيد أنه فوجئ أن بوتا خرج من دائرة منضدته واستقبله كضيف محترم لدى باب مكتبه، فانهارت الشكوك، وتواصلت العملية التفاوضية، الى أن أختفى بوتا من الحياة العامة عبر لجنة ديزموند توتو (الحقيقة والمصالحة)أيضاً عندما تطورت المفاوضات، حكى عن صعوبات الاجتماع الأول للتفاوض مع البيض، وكان ضمن وفده ثابو امبيكي وهو من المفاوضين المثقفين . مع ذلك خرجوا بانطباع حسن عن امكانية الاستمرار في التفاوض وهو يشير الى الطرفة التي أطلقها امبيكي بعد الاجتماع بأن البيض مجرد أناس عاديين وليسوا وحوشاً كما كانوا يعتقدون.. ما أكثر اللمحات الإنسانية التي أوردها مانديلا وهي تدل بوجه خاص علي وعيه وصبره ونضجه وإصراره كذلك، لعل أعقد المواقف بين الطرفين أن البيض كانوا يروون طوال الوقت في مانديلا عدواً خطيراً، وهو في المقابل يراهم ضحايا ظروف تجاوزها الزمن، بيد أنه في خاتمة المطاف انتصرت الرؤية الإنسانية بين الطرفين، فتفاوضا بشرف وحققا السلام العادل. كان طريفة حقاً ملاحظات مانديلا عندما أخرج من السجن ووضع في المستشفي لفحص صحته عموماً، وكانت تتاح أمامه فرص الخروج الى الساحات الخضراء والأماكن العامة من أجل التغيير، وما كان أحد يعره اهتماماً.. ذات مرة حاول مداعبة عامل أبيض بسؤاله عن حصان كان يرعاه، ولكن العامل بدل أن يجيبه مباشرة، كان يوجه الإجابة الى السجان دون اعتبار للسائل باعتبار أنه مجرد أسود، كان مانديلا يتجاوز تلك الوقائع المخزية في صبر ودهاء، ولكن في فكاهة وطرفة وكياسة نادرة ايضاً. في مرحلة لاحقة من المفاوضات، ثارت الشكوك حوله على سعة في أوساط المناضلين من رفاقه، وكان الاتهام المبدئي الذي وجه إليه أنه باع القضية بمقابل ما.. كان يسمع كل ذلك همساً وكشائعات، ولكنه لم ينكس رأسه، بينما كان يتحدث على سجيته، خاصة عندما سافر الى خارج البلاد وهو يلتقي القادة والرفاق والأصدقاء.. كانت مسيرته نحو الحرية شاقة، بمحاورها المختلفة إذ اقتنع هو شخصياً بجدية الحكومة في التفاوض في السجن، بعد اجراءات مطولة أهمها لقاء أكاديميين، وفك بعض القيود عنه، وتزويده براديو ينقل إليه أخبار العالم.. عندما أخذ سماع الأخبار ادرك أن العالم تغير مما كان عليه من قبل، وأن الأشياء اختلفت.. في لحظة حاسمة أيضاً أدرك في عمق وشمول أن حركة نضالية مهما امتلكت من قدرات لن تهزم حكومة، ومادامت الحكومة هي من مدت يدها بالتفاوض من أجل السلام، عليه أن يستجيب..من سجن روبن بدأت مرحلة جديدة في حياة مانديلا وحياة جنوب أفريقيا والعالم، بالإنتصار النهائي والمطلق على التفرقة العنصرية كنظام مشبوه، ومسنود بالقانون واليوم فإن بقايا وذيول رذيلة التفرقة العنصرية في اي نظم ودول أو في أماكن أخرى في العالم ستزول أيضاً.بدأت مرحلة أخرى بالتحدث الى الآخرين خاصة المقربين اليه في السجن، وويني رفيقة الدرب يومئذ . مع تلاحق الأحداث ومع فريق صغير وسط الشكوك، اكتملت الحوارات الأولى مع حكومة البيض، وعندما وقر البقية بالسلام في ضمير بوتا الأكثر عنصرية، بالضغوط الداخلية والخارجية، بدأت المفاوضات للقبول بمبدأ حكم الأغلبية.. كانت المفاوضات شاقة ولكنها انتهت الى حرية مواطني جنوب افريقيا وتحرر معهم الضمير الإنساني من عبء الفصل العنصري البغيض والثقيل أيضاً.عندما اتيحت لي فرصة زيارة جنوب افريقيا للمشاركة في ورشة عمل بدعوة من منظمة اكورد قبل سنوات لاحظت في مطار جوهانسبرج وكذلك في الشارع العام والأسواق في بريتوريا أن الذين يعملون في المرافق العامة جيل جديد من الشباب الأفارقة متعددي الجذور، وهم يدركون أنهم أحرار ويسعون الى الحصول على الكفاءة بالتدريب ورفع القدرات، وأيضاً مستقر في عقولهم ووجدانهم نضال مانديلا، أو قل يعيش بذاكرتهم سجنه المرير الذي أضحى ملتقى الأحداث والتحولات الواسعة في القارة.. سألت أستاذاً بجامعة بريتوريا: لماذا كل من نراهم في الشارع والأماكن العامة من الشباب؟ أين الشيوخ؟ كانت إجابته بجلاء أن (هذا سؤال لم يطرح بعد، ربما علينا البحث عن إجابة له بالبحث والدراسة). تعرفت على شيخين أحدهما من الأفارقة السود والآخر من الأفارقة البيض، وقد وجدت عندهما القيم المشتركة التي قد تبني جنوب افريقيا المعاصرة.. كان الشيخ الأول أول سفير بجنوب افريقيا لدى الولاياتالمتحدة ووزير رئاسة الجمهورية عندما تولي مانديلا الرئاسة، وكان يتحدث الينا عن تجربة بلده، وماكنا نعرف عنه شيئاً ساعتئذ.. لقد طلب لنفسه مشروباً خارج لائحة مطلوبات الوجبة، وعندما مثل النادل بين يديه قال له الشيخ لا تنسى أن تحاسبني على ما أخذت من مشروب، وعندما سئل أن لماذا؟ قال إنه يفعل ذلك خشية أن يضع نفسه في قائمة الفساد Corruption، ولا يهم كونه ضيف شرف مناسبة الغداء. أما الشيخ الآخر فقد كان يعمل أستاذاً جامعياً، وكان ضمن فريق المسهلين في الورشة.. ذات صباح تناولت طعام الافطار معه على مائدة واحدة وتحدثنا حول مسائل متعددة، ولكني سألته أيضاً عن مشاعر البيض تجاه راهن وضعهم بعد إلغاء الفصل العنصري؟ حكى لي مضيفاً الى ما أعرف أن البيض قد وجدوا فرصاً إنسانية اقتصادية على قاعدة المواطنة، أفضل مما حصلوا عليها من فرص من ذي قبل، وجدت في حديث الشيخين تلخيصاً للوصفة السحرية، التي أتاحت الفرصة للشباب وقد تجعل من جنوب افريقيا نموذجاً دولياً معاصراًً.. تلك الوصفة باختصار هي أنه ليس هناك منتصر في بلد شهد كل تلك النزاعات والموت والدموع والافقار المنظم بالقانون.. تلك التجربة هي أيضاً ماعززت أسطورة نيلسون مانديلا في الوجدان الإنساني والافريقي.. بتلك التجربة فإن الشباب الجنوب افريقي أياً كانت جذوره أو ماضيه فهو ينظر اليوم الى المستقبل بتفاؤل ويعمل بجد، كانت الموظفة التي عالجت جوازي للدخول في مطار جوهانسيبرج لم تكن غير فتاة واثقة من نفسها لم يصل عمرها العشرين عاماً بعد يومئذ.ويبقي لمانديلا آثار أخرى واسعة التأثير وإن رحل عن الدنيا، ولعل من تلك الآثار علاقته التاريخية بالسودان التي حدث فيها اليوم تبادل أدوار لصالح السودان.. أن السودان نفسه بلد عظيم ارتبط بنضالات الشعوب في القارتين افريقيا وآسيا، إذ أنه بمقتل غردون فيه ارتبط بوجدان الشعب الصيني، وبالعلم المنديل الذي رفعه الزعيم أزهري دلالة استقلاله في مؤتمر باندونق (1955) أضحى يمثل جرأة الشعوب الافروآسيوية وتضامنها من أجل الحرية والذي خلده شعراً غنائياً رصيناً الشاعر الراحل د. تاج السر الحسن، لقد كان السودان البلد الأول استقلالاً في افريقيا، وإن تنكب قادته الطريق، حيث اشتهرت عنه المقولة إنه بلد بدل ان يختار قيادة افريقيا اختار ذيلية اقتصادية وسياسية لن تتحقق للدول العربية، وإن شاركها السودان التاريخ والثقافة والعقيدة.في ذلك السياق ظلت جنوب افريقيا مانديلا غير قابلة لليأس بشأن السودان، فقد ظلت تعبر عن اعتقاد صميم بأن السودان قلب القارة، ومصدر القوة لها، والسلام فيها وقتما اكتملت له العملية السلمية بخيار الوحدة أو خيار سودانين شقيقين، لقد رفدت جنوب افريقيا السودان قبل استقلال الجنوب بكل انواع التدريب وبناء القدرات والمتابعة اللصيقة لتداعيات مابعد الاستفتاء والاستقلال وظلت جنوب افريقيا من خلال جهود الرئيس السابق امبيكي، ترابط لحماية العملية السلمية في أطر افريقية افريقية بمساندة المجتمع الدولي.تأكيداً لما سبق فإن جامعة بريتوريا، أسست مشروعاً أكاديمياً خاصاً بالسودان يتطور من خلال الورش والمؤتمرات، ويأمل أن يصبح السودان القلب النابض حقاً بالحياة لافريقيا بشراكة كل الأفارقة، وهكذا فإن السودان بعد طناش طويل، بدأت تغشاه صحوة (أنا أفريقي حر ، والحرية في دمي، أحطم الأغلال، مهما كمموا فمي)، وأصبحنا نقترب من الصحوة وعندما تكتمل ندرك أن مانديلا منا، بني السودان.