بعد الإسلام: كان المسيحيون العرب قبل الإسلام لهم مكانتهم، وعندهم كنائسهم، وأديرتهم، ورهبانهم وقساوستهم، وكان هناك العديد من الأسقفيات العربية، والأساقفة العرب الذين كانوا يسمون (أساقفة الخيام) أو (أساقفة الوبر)، وكان لكل أسقف خيمة يرمي أوتارها مع قبيلته التي تنتقل سعياً وراء الماء والكلأ، بل كثيراً ما كان الأسقف يركب علي الجمل ولذلك تسموا بأساقفة الوبر أي وبر الجمل الذي كانت تضع منه أبسطة أرض الكنائس داخل الخيمة، وقد كان الأسقف قس بن ساعدة قد أتخذ من الجمل منبراً عالياً يعتليه ويقدم للناس أجمل العظات، وكان يقول ما حفظه أبو بكر الصيق وقال عنه، أيها الناس أسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فأنتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ان لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، أيها الأشهاد، أين ثمود وعاد، أين الآباء والأجداد، قد كنت أسمع بالزمان ولا أرى، أن الزمان يريد نتف جناحي، فأراه أسرع فيَّ حتي أصبحت، بيض متون عوارضي وصفاحي، ولا تأمنن مكر الزمان فإنه، أردى الزمان جزيمة الوضاح، وقد توفي قس بن ساعدة سنة 600م أي قبل ظهور الإسلام ببيداء العرب: وكانت الصحراء العربية موقعاً جميلاً للتأمل الهاديء في الطبيعة الواسعة المدى، ولقد وجد المسيحيون العرب في الصحراء مكاناً مريحاً لخلوتهم الروحية مع الله، حيث يصمت الإنسان ويتكلم الله معه من خلال الصحراء الفسيحة، والنجوم المتلالئة في سماء البيداء، والشمس المشرقة، أملاً في الحديث مع الله، حتي أن بولس الرسول وعندما قرر أن يكون مسيحياً قوياً حقيقياً، وخادماً نارياً باذلاً، بدأ خدمته- بأن ذهب إلي العربية، وجاء في رسالته إلي أهل غلاطية:( وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ. ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً.(غلاطية«1-15-18»، وكانت مدة أقامته في العربية ثلاث سنوات من التأمل والدراسة، والخلوة المقدسة مع الله، وكان هناك في البيداء يستوحي مشيئة الله، ويناجي ربه، في هدأة الصحراء، وأتجه شاول هناك إلي ربه وسيده بكل روحه، يرهف ذهنه وقلبه، ويطيل التفكير والنجوي، وهناك الفى ملاذ السلام والطمأنينة لقلبه المضطرم وروحه الحائرة. وعندما جاء الإسلام إلي بلاد العرب في القرن السابع الميلادي، ظل المسيحيون العرب في مكانتهم، ولم يكن الإسلام إطلاقاً منذ أيامه الأولي ضد المسيحية بل جاء مسانداً لها، ومصدقاً علي ما فيها من تعاليم روحية سامية، ولقد نشأت علاقات طيبة بين المسلمين والمسيحيين، وهناك العديد من الكتب والدراسات التي تلقي الضوء علي هذه العلاقة الممتازة بين الدينين، وفي هذه الدراسات تسجيل لأقوال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، كما أن فيها مواقف جميلة وأصيلة لإكرام المسلم للمسيحي بدءاً بالرسول الكريم، والصحابة أمراء المؤمنين، الذين كانوا يقولون عنهم أهل الذمة، وأنهم إنما قبلوا عهد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا كما روي عن الإمام علي إبن أبي طالب، وهنا قمة الإحترام والمساواة، وكأن صلة المسلم بالمسيحي هي صلة دم، والحق أن الأمر هكذا، لأننا جميعاً من أب واحد هو آدم، وأم واحدة هي حواء، وهذا هو عين ما ذكره بولس الرسول في عظته الشهيرة التي ألقاها في وسط ميدان أريوس باغوس، الذي يشبه «هايد بارك لندن» حيث قال: وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيداً. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ.(أعمال الرس(17-26-28) ومن بين الدراسات التي تؤكد الإحترام الذي قدمه الإسلام للمسيحية الدراسات الآتية: 1/ أحكام أهل الذمة، إبن القيم الجوزية، تحقيق صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ودار الكتب العلمية بيروت 1415ه. 2/ أحكام الذميين والمسأمنين، دكتور عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة 1396ه الإستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي، دكتور عبد الله بن إبراهيم علي الطريفي، 1409ه. 3/ التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، سور الرحمن هدايات، دار السلام للطباعة والنشر. 4/ الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس، دكتور سعد بن عبد الله البشري 1993م. 5/ الخراج، ويحيي بن آدم، دار المعرفة بيروت، لبنان، 1979م. 6/ الدفاع عن الإسلام، توماس أرنولد، مكتبة النهضة مصر 1970م. 7/ أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، مقاربة تأصيلية، والمؤلف هنا سوداني هو الأستاذ أبو الحسن علي السماني، وصور الكتاب عن إصدارات المركز العالمي للدراسات والبحوث الخرطوم 2005م. وإنني أعتز بالكتاب والكاتب، وأعتبره مساهمة سودانية خالصة في زيادة مساحات الود والإحترام بين المسيحية والإسلام، وكتاب أبو الحسن السوداني يقع في (287) صفحة كلها أدلة وأسانيد علي مكانة المسيحيين، وقبول شهادتهم أمام المحاكم، وتأصيل لمسألة حقوق غير المسلمين في الوظائف العامة، حق الحرية الإقتصادية، والحقوق المدنية والعدلية. ولقد ذكرت هذه المراجع محاولة مني في ترغيب الباحث السوداني في مناقشة هذه القضية حتي تطمئن القلوب، ويتلألا سلام القلب، دفعاً إلي التعامل في محبة وأحترام بين كل أبناء الوطن في سوداننا المتعدد الأديان والثقافات