يما) هي الزوجة البريطانية للدكتور رياك مشار، والتي قتلت في حادث مرور بالعاصمة الكينية نيروبي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولقد تعرفت الراحلة على الزعيم رياك مشار إبان عملها ضمن فريق الأممالمتحدة الذي كان يعمل في الجنوب ويشرف على عمليات شريان الحياة، وسرعان ما تحول التعارف إلى صلة حميمة ووجدانية توجت بالزواج، والذي كان دافعه إيمان قوي بالقضية التي كان مشار يقاتل وقتها في سبيلها، بل وإنخراط مباشر في صفوف حركة التمرد عبر جناح الناصر الذي كان يتزعمه د. رياك مشار، ويستند سياسياً وعسكرياً على الدعم اللا محدود لقبيلة النوير التي ينتمي إليها مشار، والتي تعد ثاني أكبر قبيلة بعد الدينكا في المجموعة النيلية. ü نتيجة لخلافات عميقة مع قائد الحركة الشعبية الراحل د. جون قرنق، نشب نزاع مسلح بين مجموعة الناصر (رياك مشار ولام أكول) أي النوير والشلك من جهة، والدينكا وحلفائهم من جهة أخرى، ولما كانت الحرب ضد الحكومة المركزية في الشمال ما زالت مستمرة، فقد اتهم د. جونق قرنق مجموعة الناصر بأنها عميلة للشمال، بيد أن الاتهام الأغرب، كان ذلك الذي وجِّه إلى (إيما)، باعتبارها المرأة المحرضة على الفتنة وشق الصف الجنوبي، لهذا سمى خصوم رياك مشار الحرب الدامية التي إندلعت في ذلك الوقت ب(حرب إيما) أي الحرب التي زكت أوارها ودفعت اليها البريطانية (إيما). ü حياة (إيما) ونشأتها ودورها في حركة التمرد وعلاقتها بالدكتور رياك، وثقت في كتاب شهير وممتع، أعدته صحفية بريطانية، وسمي الكتاب (بحرب إيما) أي (Ema's War). ü والذي دفعني لتناول هذا الأمر في هذا الوقت بالذات، هو إعادة التاريخ لنفسه، عقب الانشقاق الأخير في الحركة الشعبية وقيام رياك مشار بتمرد على هيمنة الدينكا ممثلة الآن في الرئيس سلفا كير، مثل ما فعل قبل أكثر من عقدين من الزمان ضد ذات الهيمنة مجسدة آنذاك في د. جون قرنق، أضف لذلك تحول الخلاف السياسي إلى نزاع قبلي، يغذيه تعصب وحقد دفين، إنعكس في عمليات القتل المروعة بين الطرفين، وخاصة في مدينة بور الإستراتيجية، والتي تعتبر العاصمة الروحية للدينكا، لهذا درج النوير عبر ميليشياتهم المرعبة والمسماة (الجيش الأبيض) على الانتقام من الدينكا قاطني بور القريبة نسبياً من مناطق النوير. ü بيد أن الوضع الآن مختلف عن ذلك الصراع في مطلع التسعينيات من عدة جوانب، أهمها انه لا يمكن اتهام الشمال (الأقرب إلى الحكومة الشرعية)، بأنه وراء تمرد النوير، كما لا يمكن اتهام الشريك الآخر في التحريض، أي السيدة إيما لوفاتها قبل سنوات طويلة. ü موقف الحكومة السودانية من الصراع كان حكيماً وموفقاً، إذ أكدت دعمها للحكومة الشرعية، وفي ذات الوقت واصلت جهودها مع مجموعة الايقاد للتوسط لايجاد حل سلمي وسياسي. ü لقد كانت الحكومة منطقية مع نفسها بعدم دعم التمرد والانقلاب، لانها لن ترضى أن تدعم حكومة الجنوب حركات التمرد السودانية، فضلاً عن توقيعها لاتفاقيات أمنية يتصدرها التزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية، أو إيواء وتقديم الدعم للحركات المتمردة ضد الطرف الآخر. ü ومن جهة أخرى فإن تقاعس الشمال أو تردده، فضلاً عن انعكاساته على المصالح الاقتصادية المشتركة مع الجنوب، يمكن ان يصب في مصلحة المزايدة اليوغندية والتحركات الانتهازية للرئيس موسيفيني، كمؤيد ومناصر لحكومة جوبا، مما يمكن ان يقوي الموقف اليوغندي على حساب السودان لدى القيادة الجنوبية مستقبلاً بعد سحق القوات الحكومية وانتصارها المؤكد على المتمردين. ü لقد عمل كاتب هذه الحلقة قاضياً في الجنوب في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كما ظل قريباً من الملف الجنوبي لسنوات عديدة بعد ذلك، وبالتالي يمكن الإدعاء بإلمام عام بالخارطة السياسية والقبلية لذلك البلد، والعناصر المؤثرة فيها. ü وفي اعتقادي، أن سبب النزاع هو إقالة د. رياك مشار من منصبه كنائب للرئيس، وهي خطوة غير موفقة في رأي، لأن رياك مشار ليس مجرد نائب للرئيس اختاره الفريق سلفا كير على أساس شخصي، بل هو رمز وممثل لثاني قبيلة في الجنوب، من حيث العددية والثروة، وقوة البأس، وهو شريك اساسي في كل ما تحقق من انجازات، بما فيها القتال ضد الشمال، وتحقيق انفصال الجنوب، وتأسيس دولة مستقلة، وبالتالي لا يمكن التعامل معه بهذه البساطة، وبحيث يُلغى دوره بجرة قلم وبقرار آحادي من الرئيس سلفا كير. ü والحل السياسي للنزاع- والذي يدعمه تقدم وتفوق القوات الحكومية- يكمن في تصوري في إعادة الاعتبار للدكتور مشار، وعقد هدنة مؤقتة إلى حين إجراء الانتخابات القادمة، وان على الرئيس سلفا كير أن يدرك أنه لا يستطيع أن يتجاهل التركيبة القبلية لبلاده، ولا أن يقفز فوقها. ü ونواصل الاسبوع القادم بمشيئة الله.