يتوكأ على عصا الصمت ، ينفتح الصباح امامه حديقة من ضؤ شاحب ، كان ذهنه مشوشا كأمسية مشبعة بذرات الرمل ، يتذكر وهو في غمرة احباطاته آخر مرة عبرت خطواته على ذلك الشارع ، يستعيد من اقاصي ذاكرته الغربال اغنية اسحاق الحلنقي لمحمد وردي ( على رمل الطريق من بيتنا جابنا الشوق بسكتكم ) ، يآآآآآآآآآآه لا زالت هذه الاغنية مرمية على شباك الذاكرة المنطفئة ، تغيرت معالم واجهات البيوت المطلة على الشارع ، تغيرت ملامح البشر ، اطفال كثيرون يعبرون امامه لا يرى فيهم شبها لواحد من وجوه الامس البعيد ، يثور ديالوج صامت في دواخله ، ربما هؤلاء الصبية من الجيل الثاني او الثالث من سكان الشارع او ربما لمهاجرين جدد من احياء اخرى الله وحده اعلم ، على مزراب بيت تبدو حيطانه متماسكة يتقافز عصفور نزق منتشيا باطلالة الصباح يسأل نفسه هل ذلك العصفور يتذكر ملامحه ، في حينه يبدو السؤال غبيا فيكركر بضحكة مشروخه ربما يكون اسلاف ذلك الطير يتذكرون ملامحه ، لكن اين اسلاف ذلك العصفور ربما ارتحلوا الى الضفة الاخرى ربما التهمتهم قطة من ( كدايس ) الحواري ، كان المسكين يبحث عن منزل مشيد من الطوب غير المكحول ، كل المباني في الشارع تغيرت لا يوجد اثر لبيت يحمل ذات الموصفات ، يا الهي كيف له ان يتعرف على منزل الذكرى ، يذبحه الحنين الى الماضي ، يشعر في قرارة نفسه كأنما يبحث عن ابرة في محيط هائج ، يشعر انه غريب حتى النسيان ، يعبر رجل بدين يتابط حزمة من الصحف اليومية بجواره يرمقه الرجل بنظرة عابرة ، ولا يلقي عليه التحية ، يتذكر كم كان في الماضي نجما مضيئا في ذاكرة السكان ، كان بطلا في الدافوري ورئيسا لرابطة مشجعي النادي الرياضي العتيق وابنا لفاطمة وعائشة وسلمى وجميع نسوة الحي ، يثور سؤال آخر في دواخله ترى ماذا حدث بعد ان هرب من الشارع ذات مساء صيفي والتقطته ارصفة الغربة ؟ غربة لا زلت تتسلق اعصابه المرهقة من فرط التعب ، هل اصبح الماضي مجرد ذكرى منطفئة ، هل اصدقاء الامس الذين هربوا مثله لا يزال شبح الامس يطاردهم ؟ ، اصدقاء جمعتهم جلسات المغربية على ناصية بيت طيني لم يعد موجودا في خارطة الحي ، الكل ذهب الى حال سبيله وانقطعت بينهم سبل التواصل ، شغلتهم الحياة لكنه لا يزال مهوسا بالشارع الذي تفتحت عينيه على مشاهده وشهد جولاته المسائية الخائفة مع البنت سلافة ، يآآآآآآآآآه..... يتقاسم معها سندوتش الطعمية وعشق اغنيات مصطفى سيد احمد ، ترى اين هي هذه السلافة هل لا زالت في عفويتها ام طالتها رياح التغيير ، يستيقظ فجأة من تهويماته بعد ان كادت سيارة مسرعة تحيله الى كتلة من الدم الممزوج بالتراب ، يغادر تضاريس الشارع ولا زالت ذاكرته كأمسية مشبعة بذرات الرمل .