يتوكأ على عصا الصمت ويمشي وحيداً مثل الشبح الكاريكاتوري في ظلال العتمة، ينفتح الشارع الترابي أمامه حديقة من الأضواء الشاحبة، كان ذهنه مشوشاً كأمسية مشبعة بذرات الرمل، يتذكر وهو في غمرة احباطاته آخر مرة عبرت خطواته على ذلك الشارع، يستعيد من أقاصي ذاكرته الغربال أغنية هاربة في زوايا العمر، أغنية كان يرددها حينما تقسو عليه السنون وتمضغ الأيام بقايا حكاياته مع السهر واللهاث اليومي وانتظار ما يأتي ولا يأتي، ما زالت الأغنيات الحزينة مرمية على شباك الذاكرة المنطفئة، تغيرت معالم الحي العريق، نهضت بنايات ودكت كل واجهات البيوت الشعبية، لكن ما زالت الشوارع عابقة برائحة الغبار والصمت وضجيج الأطفال، وليس هذا فحسب، بل تغيرت ملامح البشر، أطفال كثيرون يعبرون أمامه لا يرى فيهم شبهاً لواحد من وجوه الأمس البعيد، يثور ديالوج صامت في دواخله، ربما هؤلاء الصبية من الجيل الثاني أو الثالث من سكان الشارع أو ربما مهاجرين جدد من أحياء أخرى الله وحده أعلم، على مزراب بيت تبدو حيطانه متماسكة يتقافز عصفور نزق منتشياً بإطلالة الصباح يسأل نفسه هل ذلك العصفور يتذكر ملامحه، في حينه يبدو السؤال غبياً فيكركر بضحكة مشروخة ربما يكون أسلاف ذلك الطير يتذكرون ملامحه، لكن أين أسلاف ذلك العصفور ربما ارتحلوا إلى الضفة الأخرى والتهمتهم قطة من (كدايس) الحواري، كان المسكين يبحث عن منزل مشيِّد من الطوب غير المكحول، كل المباني في الشارع تغيرت لا يوجد أثر لبيت يحمل ذات الموصفات، يا الهي كيف له أن يتعرف على منزل الذكرى، يذبحه الحنين إلى الماضي، يشعر في غرارة نفسه كأنما يبحث عن إبرة في محيط هائج، يشعر أنه غريب حتى النسيان، يعبر رجل بدين يتأبط حزمة من الصحف اليومية بجواره يرمقه الرجل بنظرة عابرة، ولا يلقي عليه التحية، يتذكر كم كان في الماضي نجماً مضيئاً في ذاكرة السكان، كان بطلاً في الدافوري ورئيساً لرابطة مشجعي النادي الرياضي العتيق وابناً ل"فاطمة وعائشة وسلمى" وجميع نسوة الحي، يثور سؤال آخر في دواخله، ترى ماذا حدث بعد أن هرب من الشارع ذات مساء صيفي والتقطته أرصفة الغربة؟ غربة ما زلت تتسلق أعصابه المرهقة من فرط التعب، هل أصبح الماضي مجرد ذكرى منطفئة، هل أصدقاء الأمس الذين هربوا مثله ما يزال شبح الأمس يطاردهم؟، أصدقاء جمعتهم جلسات المغربية على ناصية بيت طيني لم يعد موجوداً في خارطة الحي، الكل ذهب إلى حال سبيله، وانقطعت بينهم سبل التواصل، شغلتهم الحياة، لكنه لا يزال مهووساً بالشارع الذي تفتحت عيناه على مشاهده وشهد جولاته المسائية الخائفة مع البنت "سلافة"، يآآآآآآآآآه..... يتقاسم معها سندوتش الطعمية وعشق أغنيات "مصطفى سيد احمد"، ترى أين هي هذه السلافة؟ هل لا زالت في عفويتها أم طالتها رياح التغيير؟، يستيقظ فجأة من تهويماته بعد أن كادت سيارة مسرعة أن تحيله إلى كتلة من الدم الممزوج بالتراب، يغادر تضاريس الشارع وما زالت ذاكرته كأمسية مشبعة بذرات الرمل والغبار.