جاءت إفادات منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة المقيم بالسودان بمثابة تأكيد للقلق الذي عبرنا عنه في «إضاءة» الاسبوع الماضي حول أوضاع النازحين والمتأثرين بتصاعد الحرب في دارفور وحملت عنوان «دارفور.. الطاحونة لسَّهْ مدورة» تعليقاً على النشرة الصادرة عن مكتبه والتي حملت أرقاماً مخيفة حول أعداد النازحين جراء المواجهات الأخيرة وحتى نهاية شهر مارس الماضي. المنسق الدولي هو الأردني السيد علي الزعتري.. ولأهل الأردن كثير مودة ومعزة للسودان وأهله شهدتها بنفسي وعايشتها إبان إقامتي بين ظهرانيهم مديراً لمكتب «الاتحاد» الإماراتية.. مودة ومعزة لطالما ما عبَّر عنها مليكهم الراحل الحسين بن طلال، وهو يحادث سفيرنا الأسبق محجوب رضوان «رحمه الله» والذي غادر دنيانا منذ شهور قليلة مضت.. فقد انعقدت بيني وبين محجوب صداقة عميقة في عمان، وشكل كلانا ثنائياً «دويتو» في خدمة الوطن في ثمانينيات المحل والتصحر والجفاف الذي ضرب البلاد.. حينها هبت الأردن ومليكها لنجدة أهل دارفور واغاثتهم جواً بالغذاء والطبابة من مركزهم الشهير في «كاس».. كان الحسين يكرر لمحجوب لدى كل لقاء أو موقف قوله إمتناناً: «أنا اتربيت بأيدي سودانية» في إشارة للسودانيين من أهلنا النوبيين الذين كانوا يعملون في قصر جده الملك عبد الله بن الشريف حسين، فشهد لهم بالأمانة والإخلاص في العمل والتحضر، وتعرف كفاحاً على سجايا السودانيين وخصالهم السمحة. عندما طالعت إفادات الزعتري ل«الرأي العام»، الأحد الماضي، تذكرت كل الجمايل غير المنكورة لوطنه ودولته، وأيقنت أن الرجل يصدر عن ذلك التعاطف الوجداني والمحبة والمروءة التي طبعت تلك العلائق الممتدة بين شعبينا. تحدث الرجل إلى مُحاوِرته بدبلوماسية دولية رفيعة، وإن لم تنقصها الصراحة الحادبة على مصير بلادنا الذي يؤرقه كما يؤرق أهله، فطرح الحقائق الصلبة والأرقام الراجحة التي تعكس الواقع على الأرض في ميادين القتال.. وقدم النصائح المخلصة لأطراف الصراع حكومة وفصائل مسلحة وقبائل، فقال في ما قال: الوضع في دارفور مضطرب جداً.. وإن سكن فإنه يسكن ليتهيأ لاضطراب جديد.. هناك أكثر من جهة مسلحة على استعداد فوري للاشتباك والاقتتال.. حركات متمردة.. مليشيات.. قطاع طرق.. مُتفلتين.. قبائل عربية وغير عربية.. جيش.. قوات مساندة.. حرس حدود.. وكل له أسبابه في القتال.. وللأسف يحصل الاقتتال في المناطق التي يسكنها المدنيون.. ريفيين وأهل قرى.. فعلاً هذه مشكلة كبيرة في دارفور. لا أظن أن منظمات الأممالمتحدة «تبالغ»- في أرقام النازحين والمتأثرين- لأن المبالغة لها تداعيات خطيرة.. وطنية واقليمية ودولية.. لكن عندما يصل الموضوع لدرجة «الحراجة» في الأرقام.. يجب أن نقول الرقم الذي نصل إليه.. إذا كانت هناك شكوكٌ حوله.. لا مانع من تشكيل لجنة تذهب وتحصي، وخلال اسبوع يمكن أن نصل إلى الرقم الصحيح.. هناك وسائل للوصول إلى الرقم.. آخر احصائية تتحدث عن (214) ألفاً و 495.. الرقم ينقص ويزيد بقدر عودة النازحين إلى مناطقهم.. والرقم متأرجح ما بين (199 إلى 200) ألف. أنا رأيت المدعي العام موجود لتفعيل العدالة في دارفور، ووزير العدل مهتم وهو من أهالي دارفور.. القضية مرتبطة بتوفر الامكانيات.. بالمقدور الإتيان بشخص وهو جالس في بيته إذا ارتكب جريمة.. لكن عندما يرتكب ثلاثة آلاف شخص جريمة كيف تأتي بهم إلى العدالة؟!.. الحل لابد أن يكون سياسياً مجتمعياً مع قوة عادلة.. أما السلطة القضائية فليس لها إمكانيات جلب مليشيا أو حركة متمردة للقضاء. خلال اليومين الماضيين منعنا من الوصول إلى مخيم «زمزم» على بعد 10 كيلو مترات من الفاشر.. مع اعتقادي أنه ليس هناك ما يمنع من الوصول إليه- «لمساعدة المحتاجين»- ومع ذلك نحن لا نيأس، ننتظر يومين أو ثلاثة وأحياناً ثلاثة أسابيع.. هناك مناطق منذ 2010 لم ندخلها بينها شرق جبل مرة، ولا ندري ما يجري هناك، فالصعوبات متعددة، بينها أيضاً المتمردون والمتقاتلون أنفسهم وأحياناً لا نجد وسيلة للوصول بأمان. الأزمة في دارفور والسودان باتت تُعرَّف بأنها (متطاولة).. مع التطاول هذا في فترة الأزمات تفتر «الهّمة» وللأسف الأزمات في سوريا وجنوب السودان وافريقيا الوسطى فاقمت من الاحتياجات الانسانية في العالم كله.. في نفس الوقت هناك شكوى من الأممالمتحدة والمانحين من التعامل في السودان.. والمانح الذي يعطي السودان يدخل في مقارنات. في النيل الأزرق وجنوب كردفان: يجب على الطرفين اعطاءنا الضمانات الأمنية بأن نصل ونعود بأمان.. ليس صعباً أبداً على الدولة ولا قطاع الشمال إعلان وقف اطلاق النار لمدة اسبوعين «كرامة وإكراماً» للأطفال.. وخلال هذه الفترة بإمكاننا تحصين 160 ألف طفل ونراقب أوضاع النساء الحوامل والمرضعات، ونعطي تقييماً تغذوياً- صحياً عن الوضع. أنا لا أبرر لأحد.. لكن ما أحب أن أقوله يجب وقف القتال في دارفور.. ويجب أخذ قرار مسؤول «وطني- سوداني- دارفوري».. سمه ما شئت.. لوقف القتال والجنوح للسلام.. وإلا سنصل إلى مرحلة الكل عدو الكل في دارفور وهذا في النهاية دمار لا حدود له. هذا بعض ما قاله السيد علي الزعتري، وقد اسمع إذا ما نادى حياً، والأمل كله أن يتمتع من ينادي عليهم بالحياة والبصيرة وبعض الحياء.. وإلا فالجميع سيحصد الحصرم ويقتات الزقوم ويتجرع السموم في نهاية المطاف.. ولات ساعة مندم!