لم يعد الوصف المعتاد بأننا بتنا نجتاز أزمة عميقة تضرب أبنية الدولة وتعصف بخيمة المجتمع من جذورها محض إيغال وتزيد، ومما يزيد المرء أذى عن إساءة أن الواقع نفسه صار متجاوزاً للوصف وعصياً على النعت , ربما أصاب حُميّد وهو يقرر على نحو قاطع (زي الحال ده يوم لا كان لا حصل)... ولأن الشعر أعذبه أكذبه قد يعترض البعض على حجية الاستدلال بشاعر يطلق عنان حرفه إلى أقصى تفاصيل بوحه ليقرر في لحظة ما أن هذا الحال الذي انقلبنا إليه مؤخراً لا كان لا حصل،أقول ولكن هل الواقع منظور إليه بعين النقد لا عين السخط والرضا هو دون هذا الوصف؟ أليست المعطيات المشكلة لهذا الواقع تتسم بأعلى مراتب الموضوعية ؟ دولة تضحي بثلث مساحتها وربع سكانها من أجل أن تحقق إتساق الهوية واستدامة السلام.. ! فتكتشف أنها أخذت عن جوهر الأزمة بأعراضها وأن الأمر أعقد مما تتصور..! فالتمرد صار صيرورة تتقلب مع أزمنة الحكم المختلفة، وصارت نظرية الهامش والمركز تعبر عن واقع مركب آهل بالتعقيد وليس رؤية جغرافية تبسيطية.. فالمركز نفسه محاط بهوامش كثيرة، وصورته ليست خطية ولكنها دائرية ، وإحداثياتها ليست دقيقة ولكنها عميقة. والفقر إجتاح أسوار الأسر المتحصنة بثياب العفة والمتعالية على العوز بالتصبر الجميل، وغير الجميل، والأمن تناقصت حدوده وتضاءلت مستوياته، فصارت الجريمة أداة للتكسب غير المشروع وغير المشروط بالقيم السلوكية.. وصارت القيم السلوكية نفسها عرضة للتشكيك ونهباً للاستهداف، تارة بحجة نسبيتها وتارة بحجة تضاغط الظروف وضرورات الواقع .. بعضهم بات يقول إن بعض أرباب الأسر أخذ يتنازل عن مسؤولياته وصلاحياته تحت وطأة الأزمة المعيشية وما عاد يسأل عن تأخر أفراد أسرته إلى ما بعد الواحدة ليس لتزايد الثقة ولكن لتغير نمط الحياة وضغوطها.. الطبقة السياسية لا يهمها حجم الكوارث التي ترتكبها في حق البلد!! بقدرما يهمها حجم الامتيازات التي تجنيها من وراء ما تشغله من أدوار في المجال العام أوإن شئت الدقة (المجال الغرق) فحتى متى تستثمر المعارضة في معاناة الناس وآلامهم؟ وحتى متى تستمريء الحكومة تقديم البقاء على العطاء مع أن الآخر شرط للأول..؟ نعم لم يثور ولن يثور الشعب السوداني لزيادة المحروقات، لكنه ثار مراراً لزيادة الحرائق، ويكفي أنه ثار في أكتوبر(باكورة الربيع العربي التي سبقته بزهاء الخمسة عقود) من أجل أزمة الجنوب .. وثار في أبريل كذلك لدرء نير الإستبداد وإطفاء حريق التمرد في تبديه الأخير.. فقد صدق أمين حسن عمر حين قال شعبنا العزيز لا ينتفض عن جوع ولكنه ينتفض عن كرامة.. ولو تحرى أمين الأمانة لقال إن ثنائية الخبز والحرية لا توجد إلا في بقايا خياله.. أو لم يقرأ فرضية «أماريتا صن» التي قال فيها إن الديموقراطيات لا تجوع وأن الكفاية هي البنت الشرعية للكرامة .. أو لا يكفي أن المجاعة طرقت أبواب كبار الدول كالصين والاتحاد السوفيتي وعجزت عن دخول دولة صغيرة كبتسوانا .. لكم أدرك حجم الضغوط المتكاثفة على خيال النخبة المتضائل .. وشرط القيادة كما قال غازي الخيال والأمل .. وكم أدرك أن تغيير النظام في ظل هذا العناد المستشري يبدو أملاً بعيد المنال ليس لأن الشعب غير قادر أو راغب في ذلك ولكن لأنه ما زال معتصماً بحبل الصبر الجميل والحزن النبيل إذ النصر صبر ساعة.. ولهذا ليس أقل من الاصلاح الذي يعلن عنه كل حين وينكص عنه كل حين، الاصلاح على مستوى الهياكل وعلى مستوى الفواعل .. الإصلاح يبدأ في التفكير قبل السلوك رغم أن إجراءه على السلوك أسهل من الفكر.. وأول لوازمه بناء عقد اجتماعي جديد على هدى المواطنة الحقة والحكم الرشيد.. ثاني مطلوباته إسناد الأمر إلى أهله..! فأهل مكة أدرى بشعابها .. وثالث موجباته تثوير الذات.. ودفعها صوب المبادرة والانتاج .. ورابعها إعادة اكتشاف المقدرات والبحث عن الامكانات الكامنة والميزات النسبية.. وخامسها الانفتاح على العالم عبر مصارحة الذات ونقدها وتمحيص مواقفها وترتيب مصالحها.. وفي هذا السياق فقد حكى لي أحد الباحثين النابهين أنه أضطر للسفر إلى القاهرة حتى يتسنى له تلقي برنامج بحثي يعينه في إجراء تطبيقاته الحقلية في دراسة نادرة في أمر الزراعة وأنه ظل ينفق من الطاقات والوسع في إقناع الفرنسيين حتى وافقوا مؤخراً في مده بنسخة(سوفت)من البرنامج واشتراطهم بإرساله له في القاهرة إلتزاماً منهم بتنفيذ المقاطعة.. نموذج في ذات الإطار هذه المرة مع أكاديمي مرموق آثر أن يشترك في دورية عالمية لايستقيم بدونها الإلمام بدقائق تخصصه الحافل على مدار اللحظة بالكثير والمثير ورغم اقتطاعه لرسوم الاشتراك من قوت أهله إيثاراً للعلم والمعرفة إلا أنه فوجيء بأن نسخ الدورية «سوفت» أيضاً لا تعمل بموجب قانون المحاصرة والشواهد تترى على عدة محاور وكل ذلك بسبب جور الآخر..! نعم وبسبب غفلة الذات كذلك .. بسبب مكر الآخر وتربصه..! ولكن بسبب ضعف الحذر وقلة الحيلة كذلك .. رسالة أخيرة أرجو ألا تخطيء وجهتها ويساء الظن بها وهي أن الشعب الذي أحتفى بهذا النظام كما لم يحتف بأي نظام آخر يستحق أن يراعى في أمر معاشه، وأن يحس بمعاناته نوّام شعبه بالبرلمان بصورة أكثر جدية من أحاديث السخينة الساخنة.. وأن يمتد هذا الإحساس إلى الجهاز التنفيذي الذي خرج معظم شاغليه من غمار الناس وبسطائهم ويكفي أن مناطقهم ما زالت ناطقة بلسان البؤس المبين..!!