أخي الراحل الكبير الدكتور جون قرنق اسمح لي بأن استهل مناجاتي بأن أسوق هذه الكلمات لشاعر نضالي قديم تقول:- ضحك الخالد لما***بات مهوى للأسنة لقى الموت بنفس***للمنايا مطمئنة ووراء الموت للإبطال***ريحان وجنة زلا نماري أو نداجي حينما نقول انك قد سطرت اسمك في الخالدين في تاريخ بلادنا بمعايير الخلود البشرية وقد كنت في حياتك الحافلة مهوى للأسنة من كل صوب وجانب، وقد لقيت المنية مطمئناً بعد ان أحرزت لوطنك انجازاً أكثر بطولة ونبلاً من صنع السلام الذى سعيت نحوه والأفاضل من أبناء وطنك حتى توجتم اتفاقية السلام الشامل في 2005م، وكأنما كنت تسعى إلى (موت الإبطال) فقد رحلت بعد انجاز الاتفاقية بقليل إلى بارئك ودموع مواطنيك تدل على مكانتك ومكانة انجازك ونبل توجهاتك مقاتلاً ومسالماً. واليوم نقف على مبعدة خطوة من اختتام استحقاقات اتفاقية السلام بعد ان تم تحقيق كل الاستحقاقات ولم يبق سوى استحقاق استفتاء مصير الجنوب الذى أرسيته في متن اتفاقية السلام الشامل بقصد تحقيق الوحدة الطوعية وليس بقصد تحقيق الانفصال من جسد الوطن الام، وهذا الوطن الذى ناضلت من اجله مقاتلاً في الغابة وفى الجيش الوطني، كما ناضلت من اجله دارساً وباحثاً وأستاذا جامعياً حتى تبلور نضالك فى فكرتك الوحدوية الرامية إلى ما أطلقت عليه (السودان الجديد) بعد ان قادك فكرك النير ونظرتك الثاقبة إلى مخاطر الانفصال ومغامراته المحفوفة بالمهددات والمآلات ، وليس على السودان أو على احد شطريه (الجنوب والشمال) بل على الإقليم الكبير بآسره. وقد كنت اخي قرنق تعلم تماماً بان وحدة السودان هي خيار استراتيجي، فالسودان القائم على التراضي بين أهله سيكون دولة ناهضة وقابلة على البقاء أياً كانت الضغوط والمهددات التى تواجهها، كما سيكون كياناً فاعلاً من اجل استقرار الإقليم وأمنه، أما انقسامه واضطراب أحوال دولتيه المنقسمتين فسيكون مصدراً دائماً للتوتر والصراع، ويفتح باباً واسعاً للحرب الأهلية بين أبناء السودان، ومصدراً للصراعات والأزمات الإقليمية. واليوم وعت دول الإقليم الدرس بعد ان أصبح استفتاء تقرير مصير الجنوب على مبعدة نصف عام لا أكثر، وبعد اللامبالاة أحيانا والتدخل السالب أو المتآمر أحيانا في مشكلة جنوب السودان أخذت أطراف الإقليم تعي ان انقسام السودان لا يمكن ان يمنحها اى جائزة أو مصلحة، فالمخاطر ان بدأت بانفصال جنوب السودان فلن تقف الحدود بين دول الإقليم حائلاً أمامها فكلها ما بين جنوب وشمال وشرق وغرب وقبائل متنافرة ومتقاتلة ومصالح متباينة وصراعات بالأصالة او بالوكالة، وكدليل بسيط نسوق ما يجري من صراعات حالية في الإقليم حول مياه النيل، فقد تكتلت الآن سبع دول من دول المنبع وعملت على توقيع اتفاقية إطارية حول مياه النيل دون مشاركة أو حتى موافقة من دولتي المصب (السودان ومصر)، وتهدف الاتفاقية إلى إلغاء الحقوق التاريخية المكتسبة للدولتين وتفرض آليات جديدة تنظيم مياه النيل تتناقض مع قواعد القانون الدولي. ولعل القائد الفذ الدكتور جون قرنق قد أدرك بثاقب فكره ما أدركه اليوم فقط أولئك الذين كانوا يصفقون لدعوى انفصال الجنوب السوداني عن جسده الام وينتظرون اقتسام جوائز إعلان الانفصال، ومن جانبنا فقد سقنا هنا ما أوردناه لكن نشير مجرد إشارة فقط الى سعة افق راحلنا الكبير الدكتور قرنق سواء فى شمول رؤاه السياسية والفكرية او سواء رؤيته الإستراتيجية التى تخطت الحدود.