النيل «يِكْرُبْ زِنْدِه» في منتصف أغسطس من كل عام ، وبالتجربة الطويلة مع هذا النهر العظيم ، فطُنَ اهل الوادي، إلى أن منسوب المياه إذا شهد ارتفاعاً ليلة الثامن عشر من أغسطس، فهذا معناه أن الفيضان سيكون كبيراً..هكذا، ومُنذُ أمدٍ بعيد كانت «للترابلة أحْبَاسُهم وللدولة أحْباسُها».. الأحباس المُعترف بها رسمياً في السودان تتواجد عند الخزانات، في سنار والروصيرص وجبل الأولياء، وعند محطة الخرطوم، وهي أحباس تعطي قياسات دقيقة لمنسوب المياه في النهر، لولا أن قراءتها تخضع في كثير من الأحيان، لأهواء مركزية الدولة.. أما الأحباس عند الترابلة على ضفاف النيل، فهي خطوط الجروف المتدرجة، تحت ظِلال أشجار الجُمّيز التي زرعها الانجليز عند محطات البواخر على طول الشاطيء، من كرمة وحتى كريمة.. الأحباس عن سكان «الجزاير»، أن يغطس طرف جزيرة ال «سّاب» عن آخره في ماء الفيضان،،«وكم نَخَلاتْ تهفهف فوق جروف السّاب »..! السّاب في رُطانة النُّوبة التي يصعُب نقلها الى العربية (هو طرف الجزيرة المُنسرِب مع التيار، والذي يأخذ شكل مثلث حاد الزاوية ، يتهدّل من أعلى الى أسفل بلطمات الموج)..! تخيّل هذه الكلمة المكونة من ثلاثة أحرف«سّاب»، تعني كل هذا الاسهاب باللغة العربية، وربما أكثر..! جروف السّاب تتجدد كل عام مع الفيضان الهادر، الذي ينزع غطاء الجروف القديم و يجدده «الكُرْكَتِّي» الجديد، وبذلك تكون جروف الشمال هي أخصب أطيان الأرض،، ولذلك يقول الناس عن تلك الأطيان «لو زرعت فيها زول يقوم »..! «الكُرْكَتِّي» معناه بالنوبية ، الطمي الجّاف المُتشقِق، الذي يذرفه النيل على الضفاف.. هذا التكوين اللّزِج، أو ذاك «الحمأ المسنون» هو خلاصة رحلة نهر النيل الطويلة من مجاهل أفريقيا وهضابها الى المصّب، عبر رمال وصخور الصحراء، وهو ثروة لا تعادلها ثروة، لربما يأتي علينا زمان، نستخرجها الى أسواق العالم، بتراب القروش..! النيل هذه الأيام كارب على القيف في شمال السودان،و التماسيح التي أخافتها المَيّكنة تتشمّس فوق حجارة النهر و تلعب في ميدان الماء الفسيح،، والسبيط «مِْدلي» أشكال والوان، «ينقِّط في العسل ، ياريت شرابي»..! و تسمع من بعيد خرير المياه، ورَزْم الهدّام، و ذوبان الرمل الأحمر في المجرى..الماء مُشبّعٌ بالطين وأظلاف النخل و «كرّوق» الدّوم، وعيدان شجر السُنُط والطرفه، وجذوع البوص والحلفا، وكل ما اقتلعه مدُّ الماء من حصاد السنين..! الطّمي يخنُق أسماك الكانكيج والدِبس والبُلطي، و «الداشكوق أبْ سَنابْ» يخرج من مأمنه ليبرطع في حيضان الذُرة التي غمرتها المياه، فيكون صيداً سهلاً، لكن حذاري من تلك الشوكة القوية التي يحملها على ظهره ، فهي قاصمة، إذا ضربك بها..! على ضفة النيل في أيام الفيضان حياةٌ كاملة، بمراكبها وعبيرها و طنابيرها وشواؤها.. المُرَاحات سعيدة بنبات «الدِفرة»الناعم، الذي هو أشهى عشب لإدرار ضروع البهائم، و شيمة الماء تعوي صُرّة البحر، وحول مجراه العنيد تربُضُ الأرض السمراء كأنها بلقيسٌ أُخرى، تكْشفُ عن ساقيها..حتى الصحراء تشارك في هذا المسور و ترنو الى الضفتين، ويغادر أطرافها المحل.. تحت سّواهيها تختبيء دواهي عطشى حملتها تلاقيح الهبوب، والدنيا مغارِبْ، فأحذروا.. أحذروا الهترشة حول اتفاق باريس ، فللمهدي نفحاته ، و للدعم السريع طقوسه ، وللنيل عاداته، وهكذا يفيض الماء علينا، وكذا تبرُق بروق الصعيد بالبُشارة والنّذارة..! ومع ذلك يفاجئنا الخريف، ومع ذلك تموت بالعطش أحياءٌ مثل أُمبّدة والكلاكلة وغيرها..! لكن،«المُوجِعْني في المَوْضُوع»، أن ينبري أحد كوادر التكدير، ليخطب في المنكوبين قائلاً (إنها أمطارُ خيرٍ وبركة)..!