استهلكت الكاتبة ليلى أبو العلا وقتاً طويلاً وورقاً كثيراً -شغل الخمسة فصول الأولى- وهي تحكي عن تفاصيل مرض (محمود) -الحاج عوض أبو العلا- الذي اقعده شهوراً قبل أن يعود إلى مكتبه ومزاولة أعماله المعتادة وحضور المناسبات المهمة وعقد الصفقات التجارية، وعن المدرس المصري (بدر) ومعاناته مع والده «المخرِّف» ومنزله ذي الغرفة الواحدة الذي ازداد ضيقاً بحلول ضيف ثقيل، ابن عمه (شكري) الوافد من مصر، بحثاً عن عمل لم يوفق فيه، حتى التحق بإحدى مزارع أبو العلا في الجزيرة، وعاد منها خائباً ليلتحق بالعمل معهم في المنزل ممرضاً «لنور».. تفاصيل كانت ستكون مدعاة للملل.. لولا قدرة السيدة ليلى المدهشة على السرد المُسلي والتصوير الفني المؤثر لأحداث صغيرة وغير ذات بال.. لكنها اتخذتها مدخلاً للحدث الجلل الذي هو عمود خيمة الرواية، المتمثل في اصابة «نور»-الشاعر حسن عوض أبو العلا في شاطيء الاسكندرية، بينما لا يزال طالباً في كلية فكتوريا.. المدرسة الانجليزية لأبناء الأعيان والمتنفذين في الشرق الأوسط، حيث تمكن من احراز نجاح باهر في امتحان شهادة كامبردج. ٭ عن «الحدث المركزي».. اصابة نور، على شاطيء الاسكندرية.. تروي ليلى: «نور» بقى -بعد الامتحان- مع اصدقائه الذين لم يذهبوا بعد في عطلاتهم الصيفية.. أما عائلة أبو العلا.. عم «محمود» وزوجتاه وهيبة (والدة نور) والأخرى (نبيلة) المصرية وابنه «ناصر» وزوجته ابنة عمه (فاطمة) واختها (ثريا) محبوبة (نور) سافروا جميعاً إلى مصر في مصطافين.. بقيت «نبيلة» مع أمها في القاهرة وكذلك «محمود».. بينما اتجه ناصر وأمه وزوجته وأطفاله واختها (ثريا) إلى الاسكندرية حيث يقيم «نور» للاستمتاع بأجواء الاسكندرية وشاطئها المريح، الذي جذبهم بهوائه العليل ومناظره الخلابة لقضاء معظم الوقت عند الكورنيش.. كانت فرصة لثريا لمزيد من الاقتراب الى حبيبها -زوج المستقبل المفترض- «نور» الذي فاتحها لأول مرة بحبه وسألها: «هل تتزوجيني».. فكان ردها ضحكة تعني: و«من تتزوج غيره!»، فكأنه سؤال غريب.. وتمضي الكاتبة تفصّل لحظات الوجد والحب والآمال العراض التي جمعت بين (نور) و(ثريا) في الاسكندرية وأجوائها المواتية وهيأت لهما فرصة الإنفراد والتخطيط لمستقبل الشراكة الأبدية.. بينما وجد أخوه الكبير «ناصر» تلك الأجواء أكثر مواءمة لمزيد من السهر والشرب وارتياد الملاهي. ٭ وفي أحد تلك الايام، وبينما كانت العائلة تستمتع بالشاطيء السكندري.. كان هناك ثلة من الجنود الانجليز يتلهون بلعب كرة القدم قرب البحر.. تدحرجت نحوهم كرة الفريق الانجليزي.. نهض (نور) بسرعة ووضع قدمه عليها فأوقفها، وصوّبها من حيث أتت.. بضربة واحدة إنضم للفريق الانجليزي.. فهو بالأصل كان قائد فريق كرة القدم في كلية فكتوريا.. لم يقل لهم.. لكن مهارته الكروية الفائقة هي ما دعا الجنود الانجليز للترحيب به لاعباً معهم في تلك المباراة.. عندها تحول (ناصر) الى (مشجع) بمرح وبراعة ببعض الكلمات الانجليزية.. أحست ثريا أن «نور» كان يبالغ استعراض موهبته.. فانضمت للفريق في وقت لاحق مجموعة جديدة من الشباب المصريين.. تحدى القادمون نور والفريق الانجليزي.. فتحول الامر الى مباراة جادة وعنيفة.. وتحولت الأسرة.. وليس ناصر فقط، بما فيهم (ثريا) إلى «مصطبة تشجيع» وتمنوا الفوز لفريق (نور).. وقد كان.. ٭ أقبل «نور» نحو عائلته وهو يتقطر عرقاً.. خلع قميصه وهو يقول: سأذهب لأسبح كي أبرّد جسمي قليلاً.. قالت له فاطمة بصوت عالٍ وهو يبتعد عنهم: لا تتأخر.. وصاح ناصر: هذا وقت الغداء.. دار نور على عقبيه، وهو يخب للوراء، ولوح لهم قائلاً: «دقائق فقط». ً٭ وتسرد الكاتبة ليلى: تلت ذلك الموقف خيبة أمل.. سقوط أعقب تلك المباراة، لم يكن «نور» موجود للحديث عنه.. مرَّ الجنود بالقرب من مظلتهم -مظلة الاسرة- وجلسوا عند حافة الماء على الرمال الرطبة.. جلس «إيدي» ورجليه تتدلى في الماء، وغرف منه وبلل رأسه وكتفيه، بينما أنبطح «استان» على ظهره وترك الأمواج القوية تدفعه الى البحر. ٭ راقبت (ثريا) نور وهو يصعد الصخرة المغطاة بالطحالب الخضراء ويغطس في الماء، بينما ظل ناصر يمسح على كرشه.. ويعلن «أنا جوعان».. ثريا كانت تراقب حركة نور.. رأته مرة أخرى يصعد على حافة صخرة ويغطس.. أعادت النظر إلى البحر حيث كان نور، فلم تره.. اغمضت عينيها -وهي تعاني من ضعف النظر- ثم ضيقت حدقتيها لتجعل بصرها أكثر حدة.. جاهدت كي تراه، بيد أنه لم يكن هناك!.. وقفت وحررت حقيبتها المعلقة على المظلة واخرجت نظارتها ولبستها.. رأته.. كان جسده طافياً يتمايل مستقيماً، تتلاعب به الأمواج في كل اتجاه.. اختفى عن ناظرها عندما انحدر مستوى البحر.. دفعته من تحت موجة عالية تتقدمه الى الامام.. خمنت انه يمارس احدى خدعه المتنوعة.. سارعت نحو البحر، متعجبة من غرابة منظره وهو يرقد مستقيماً فوق الماء.. لابد أن شيئاً ما قد حدث.. لابد له من السباحة الآن.. بدأت تهرول، ولحقت بها فاطمة وهي تناديها في جزع.. رفع «إيدي واستان» رأسيهما وهما يشاهدانها تعدو نحوهما مباشرة. طفقا يتابعانها وحولا أبصارهما عن البحر.. أرادت أن تصرخ بأعلى صوتها، بيد أن صوت الموج كان أعلى.. عندما توقفت عن العدو، عاد إليها صوتها.. صرخت وقالت بالانجليزية.. «النجدة.. النجدة» مشيرة إلى مكان نور، وواصلت الصياح.. ٭ ايدي واستان، هرعا نحو البحر.. سبقتهما ودخلت إلى الماء حتى بلغ منتصف ساقيها وابتلت حاشية فستانها وثُقلتْ.. رفع ايدي واستان يدي نور ووضعاها حول كتفيهما.. لا يمكن ان يكون نور يمارس إحدى ألاعبيه.. بالقطع ليس معهما.. جرّاه الاثنان وسبحا حوله وحملاه نحو الشاطيء، ولم يُبد هو أدنى مساعدة لهما.. كان رأسه يميل نحو جهة واحدة طوال الوقت.. شعرت (ثريا) بالأسى نحوه، فمنظره كان في غاية السوء، وفي حاجة عاجلة للمساعدة.. كانت تشعر بخجلٍ عميق من أجله.. عندما وضعاه على الرمال الرطبة غمغم وبصق، ورفع رأسه قليلاً، بيد أنه لم يتحرك يمنة أو يسرى، ولم يرفع جسده.. فتح عينيه، ثم أغمضهما. كان أخاه ناصر بجانبه في تلك اللحظة، وقال بصوت رقيق وقلق: ماذا حدث؟ وكرر ما الذي حدث له؟.. جلس البريطانيان بجانبه، كلٌ على جانب والماء يتساقط من جسديهما، وهما يضغطان على صدره ويحركانه، ويتحدثان عنه، بينما وقفت ثريا ومعها ناصر على مسافة قريبة.. لما سمعت صوت نور تنفست الصعداء.. وقالت: نور، انهض دعنا نذهب الى البيت. ٭ شكر (ناصر) الجنديين وكال لهما المدح والعرفان.. فتركا نور وانصرفا.. وتقدم نحو نور الممدد جاثياً على ركبتيه وعانقه.. لم يرفع نور يديه ليحتضنه.. ظلت احدى يديه ملطخة بأعشاب البحر، بينما ظلت الأخرى بلا حراك، ممدودة بزاوية غريبة وأصابعه مغروزة في الرمال.. صاحت به (ثريا): نور.. هيا.. فقال لها ناصر: انه متعب.. دعيه يرتاح.. لكنها أصرت وكررت النداء.. نظر اليها -وكأنما شيئاً مهولاً ملأ كيانه واستغرقه بالكامل-قائلاً: لا استطيع.. لا أستطيع الحركة!! ٭ هكذا روت الكاتبة ليلى (الحدث المركزي لروايتها) أو قصة اصابة نور.. عمها الشاعر حسن عوض أبو العلا.. وكان قد تناهى إلينا ونحن شباباً نسمع لأحمد المصطفى ول(سفري السبب لي أذايا) قصصاً متداولة من قبيل أن الشاعر أبو العلا قد «سقط سهواً» في حوضٍ للسباحة بكلية فكتوريا كان قد أُفرغ من الماء دون علمه، إضافة الى روايات أخرى تتحدث عن (مؤامرة مفترضة) دبرها المستعمرون الانجليز حتى ينتهي الى ما انتهى إليه.. وها نحن اليوم نقف على الحقيقة كما أوردتها الكاتبة.