في الحلقة السابقة بدأنا بصحة البيئة المتردية في وسط الخرطوم، ومآسي مواقف كبري الحرية، وقرأنا التاريخ على ضوء آراء باحثين أجانب عملوا في السودان. وبدأنا بنصيب الثقافة الدينية والاجتماعية القبلية باعتبارها من الأسباب التاريخية في الارتباك التاريخي الذي يعيش فيه السوداني المعاصر وهو يتجرع مرارة الوصايا الدولية في عهد نظام (الإنقاذ) وهي أكثر مرارة من وصايا الاحتلال الانجليزي. ثم واصلنا مع التركية و أخطاء حقبة المهدية! *** إذن، بدأ السودان يأخذ إطاره السياسي الحديث مع التركية(عهد محمد علي باشا) في الربع الأول من القرن التاسع عشر، وأتت بعد ذلك حقبة المهدية، والحكم الانجليزي المصري وحكومات الاستقلال، لم يتطور هذا الإطار كثيراً، وظل إلى سنوات الرسم النهائي للحدود السودانية عام 1899م، وظل الإنسان نفسه تتقاذفه الظروف السياسية ليتركه مع ارتباكه الثقافي الذي ظل معه قائماً لعدم الاستقرار وغياب القيادة الرشيدة، ولهذا عاد إلى الفوضى الذي ظل فيها لمجرد أن رفعت عنه الوصايا، إذن الأمور في نسقها الطبيعي إذا كان (السودان) متحضراً وهو مستعمر أكثر من ما هو مستقل!! لم يستطع الحكم التركي أن يعيد صياغة المزاج السياسي الموروث ولا أن يتركهم لحالهم، بل على العكس من ذلك اشتدت المظالم الاجتماعية حتى لم يعد التحديث مقبولاً. لهذا كان الطريق ممهداً أمام ثورة المهدي لتنطلق حوالي 1881م. كانت دينية صرفة، ولكنها عالجت صميم الوقائع الحية للشعب السوداني، ولهذا لم تكن ثقافتها الدينية مطروحة للنقاش، وقد كانت تحمل إمكانية هائلة لتحديد مستقبل زاهر للسودان أصيبت في قائدها الذي مات في عمر السابع والثلاثين. بعد موته انبعثت الثقافة القبلية القديمة بأشد مما كانت قبل التركية، حتى أن الخليفة عبد الله نفسه انجرف معها، عندما استعان بالبقارة أمام سطوة الأشراف الذين حذر منهم المهدي نفسه. لم تدخل المهدية تجربة الدولة المنظمة، لأنها لم تكن مؤهلة ثقافياً، ولم يتركها الآخرون، ولكنها رسمت مخططاً لمشروع ملك يحكم السودان لم يجد مخرجاً للتنفيذ. *** الأخطاء القاتلة التي ارتكبت بعد المهدي وكانت أبرزها معركة توشكي الخاسرة، كانت قد قضت تماماً على المزاج التراثي والديني معاً، لهذا عندما بدأت حقبة الانجليز مع بداية القرن العشرين، انجرفت الأجيال مع تيار لم يكن الانجليز أنفسهم يدركون نتائجه. بهرتهم الانجازات المادية التي جاءت مع الانجليز، والتي بدأت بسكك حديد السودان التي ظلت باقية حتى سنوات معدودة دون بديل مقنع، وقد رفعوا في إحدى المؤتمرات شعاراً عجيباً قدم دليلاً دامغاً على عجز الشعب السوداني في تقديم البديل وهذا الشعار (المخجل) كان يقول:- (لا بديل للسكة حديد سوى السكة حديد). هذه السكك الحديدية التي بناها كتشنر في سنوات معدودة من مارس 1896م حتى 1905م، لم يزد الشعب السوداني عليها في أكثر من ستين عاماً إلا كيلومترات طفيفة. مع السكك الحديدية انفتحت منافذ تجارة بحرية، على أثرها ظهرت بورتسودان إلى الوجود، ثم بنت الإدارة الانجليزية مدارس، لتدريب الموظفين، ومشروع الجزيرة، ثم كان الاستقرار والأمن. هذا الانبهار دفع أجيالاً كاملة في عملية تماهي في الانجليز، ومنهم خرجت فئة الانجليز السود، وقد كانوا بالفعل أكفأ من قادة الإدارة المدنية بعد الاستقلال!. هذا الدور البريطاني تحسر عليه البعض بعد ذهاب الإنجليز! وربما تناسى هؤلاء أن تحديث الحياة في سودان الحكم الثنائي لم يكن في أغلب دوافعه أخلاقية، بقدرما أن الوضع القانوني كان ضعيفاً لبريطانيا. كان وضعها في الشراكة الاستعمارية أشبه بوضع الأمريكان في غزو عراق صدام حسين. كانت محرجة أمام الدول الأوربية، والوصاية العثمانية، وكانت في حاجة ماسة لذريعة، كانت أبرزها تحديث مجتمع متخلف، لكن ما أن بدأ العقد الثالث انقلب السحر على الساحر. كنتيجة طبيعية لعمليات التحديث، واندلاع الثورة المصرية في عام 1922م، استيقظ الحس الوطني في السودان ولأول مرة انطلقت حركات وطنية حديثة. وانعكست تلك اليقظة على شكل معارضة سياسية، وتمرد عسكري عرفت بثورة اللواء الأبيض. هذه اليقظة قادتها فئة الخريجين من المدارس البريطانية التي أسست لتدعيم الخدمة المدنية. في هذه المرحلة الحرجة تم اغتيال السير لي أستاك حاكم عام السودان على يد مصري في شوارع القاهرة، على أثر هذا الحادث تم طرد المصريين من السودان، وأبيدت الوحدة السودانية المتمردة. كان الاستقلال الطبيعي والحقيقي يجب أن يحدث في العشرينيات، ولكن المشكلة كانت على شكل أزمة ثقافية، ولم تكن قضية إرادة وطنية. الإرادة الوطنية للاستقلال كانت أقوى مما لدى الشعب المصري، ولكن الضعف الثقافي الفكري، وهو الذي أدى إلى القضاء على هذه الإرادة التاريخية، فالأخطاء الجسيمة للثورة المهدية في أواخر أيامها، أدت إلى القضاء المبرم للإرادة الوطنية. غياب هذه الوطنية هو سبب ضعف المقاومة التي تمت بعد ستين عاماً..! ولم يأت الاستقلال إلا ثمرة صراع بين الدولتين المستعمرتين، الإرادة الوطنية لم تعمل إلا لاستثمار هذه الخلافات التي بدأت منذ معاهدة 1936م ومحادثات صدقي مع بيفن بعد الحرب العالمية الثانية. *** نواصل في الحلقة القادمة سلسلة إخفاقات حكومات ما بعد الاستقلال. وكيف عاد السودان مرة أخرى إلى حضن وصايا دولية محبوكة بأكثر من ثلاثين قراراً من الأممالمتحدة ومجلس الأمن.