من العلامات الدالة علي الكذب ومن صفات الكذاب أنه يقرب لك البعيد ويباعد القريب، وحال الولاياتالمتحدة في علاقاتها مع السودان يشبه حال الكذاب، فهي كثيراً ما بذلت وعوداً لا حصر لها بتطبيع العلاقات معنا إن نحن فعلنا كذا وكذا، أو إنتهينا عن فعل كذا وكذا، ولأننا (أسياد رايحة) دائماً ما نصدق هذه الوعود السراب فنمتثل للرغبات الأمريكية بتفانٍ وإخلاص عشماً في وفاء اليانكي بوعوده، ولكن نكتشف أن الأمر لم يكن إلا استغفالاً وكذب لأنها سرعان ما تخرج لنا شروطاً أخري كانت معدة أصلاً كبديل احتياطي للشروط الأولى وموضوعة في درج (plan b)، فنصاب بالإحباط نتيجة تبخر الآمال، ثم ما نلبث أن نشرع في تلبية الشروط والطلبات الجديدة بذات الطريقة، ليتكرر المشهد مرات ومرات حتى أدمنا هذا العمل ، وأدمنت أمريكا نفس العادة . أمس الأول أنهى السيناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأمريكي زيارة للبلاد.. تركزت مباحثاته فيها حول ملف العلاقات الثنائية، وكان المدخل إلى ذلك قضية استفتاء جنوب السودان، حيث ربط كيري تطبيع علاقات بلاده مع السودان بوفاء الحكومة بموعد الاستفتاء في التاسع من يناير المقبل واحترام نتائجه، حيث قال: (إن بوسع السودان بناء علاقة جديدة مع الولاياتالمتحدة إذا لم يعترض سبيل إجراء الاستفتاء في موعده المحدد)، والشيء المثير للدهشة في الشرط الأمريكي أن موقف الحكومة الذي ظل يعبر عنه الرئيس البشير باستمرار وعلى الملأ أن الحكومة عند التزامها بموعد الاستفتاء، وأنها ستقبل وتحترم نتيجته أياً كانت، ثم أن السيناتور كيري أكد بنفسه (أنه تلقى خطاباً مكتوباً بعبارات واضحة يؤكد أن حكومة السودان تلتزم بإجراء استفتاء جنوب السودان في التاسع من يناير المقبل وتلتزم بنتيجته)، حسب تعبيره فماذا تريد واشنطون إذن بعد هذه الضمانات الحكومية لها؟ والسؤال الأهم الذي أتصور أن يكون الجانب الحكومي قد وجهه للسيناتورالأمريكي هو أن: هذه هي ضماناتنا لكم فما هي ضماناتكم لنا في المقابل بأنكم ستوفون بوعودكم التي أشبعتمونا بها طيلة عقدين من الزمان؟ إن اشتراط واشنطون تطبيع العلاقات مع الخرطوم بوفائها بموعد استفتاء تقرير مصير جنوب السودان وفي هذا التوقيت الذي تشير كل المؤشرات فيه إلى ترجيح خيار الانفصال والموقف الأمريكي المنحاز والمساند باستمرار للحركة الشعبية في اتجاهها نحو الانفصال، فإن قواعد المنطق البسيطة تقول: إن إجراء الاستفتاء يطابق الانفصال، وبالتالي فإن التوصيف الصحيح للشرط الأمريكي هو (الانفصال مقابل التطبيع). والتطبيع الأمريكي الموعود سيكون مع (دولة السودان الشمالي) المرتقبة بعد ذهاب الجنوب إلى حال سبيله، وحينها ستستهل واشنطون عهدها مع هذه الدولة بعادتها القديمة في وضع شروط جديدة للتطبيع تصب بالضرورة في صالح دولة الجنوبالجديدة من وحي تداعيات الانفصال، وما جرفته المياه الكثيرة المارة تحت الجسر هنا وهناك من قبيل قضايا ما بعد الاستفتاء ووضع الجنوبيين بالشمال وما يسمي بالحريات الأربع، و من ثم تدور بنا الساقية الأمريكية مرة أخري لخدمة أجندة وسياسات دولة الجنوبالجديدة دون أن (ننعم) بتذوق جزرة التطبيع المزعومة أو نراها حتى، لأنها ببساطة لا وجود لها أصلاً. إن تصديق الوعد الأمريكي السراب والبناء عليه ستكون نتيجته حصاد الهشيم، ولن يكون السراب ماءاً أبداً، ولا أشك قط في ذكاء وفطنة ودهاء الممسكين بملف العلاقات الثنائية مع الولاياتالمتحدة، الذين خبروها وخبروا وعودها وإسرافها في خلفها، لا أشك في أنهم سيرمون هذه الوعود وراء ظهورهم، ولا يضيفونها أبداً إلى حسابات الربح والمكاسب في مضمار السياسة الخارجية، وإلا فستكون النتائج كارثية، ونحن في غنى عن الكوارث.