هذا العنوان هو للدكتور شاكر عبد الحميد في«سلسلة عالم المعرفة». في هذا الكتاب دراسة مطولة شاملة الإحاطة، تبحث في الفكاهة والضحك معتبراً إياها رؤية جديدة . الفكاهة في نظره من الجوانب المميزة للسلوك البشري، أما الضحك فهو التعبير الجسدي لها. في خلاصة الآراء التي ساقها الكاتب: الفكاهة أحد أهم أساليب المواجهة التي يستعين بها الإنسان في التغلب على آلامه النفسية. و يستعين بها أيضاً في مواجهة بعض مشكلاتها السياسية والاقتصادية. في الحلقة السابقة.. وقفنا لدى المدرسة الاغريقية واستطلعنا آراء الشيوخ الكبار: افلانطون أرسطو ،ثم وقفنا مع الحقبة الإسلامية الأولى ، ورغم ان الدعوة الإسلامية لم تكن تشددًا إلا أن هناك من ذهبوا بعيداً في التشدد، وقد أبرزنا بعض مقولاتهم ،ولكن أمام هذه الفئة المتجاوزة للتطرف في الرفض ظهر عدد هائل من الشعراء ومهرجو البلاط والحمقى في بلاط بني أمية وبني العباس فيما بعد. و قد دخلت الفكاهة مرحلة من السخف حدّ الضرب والصفع والقرص!! بين هؤلاء بدأ فكر عصر التنوير الإسلامي يطل برأسه. ظهر مفكرون وأدباء واستبصارات عالية تفسر ظاهرة الفكاهة والضحك والهزل والمزاح. يختار الدكتور شاكر عبد الحميد الأديب الكاتب عمر بن بحر الملقب بالجاحظ إماماً لأدباء هذا العصر. من مؤلفاته الشهيرة كتاب الحيوان وكتاب البخلاء وكتاب البيان والتبيين... بحث في أصول معاني الفكاهة والسخرية والتهكم وهو نفسه كان صاحب مزاح في دروب الفكاهة. مساهماته الأدبية الفكرية وسْعَتْ من دائرة «الاعتدال» الذي وصى به (الكتاب والسنة). ففي مثل قوله«فإن للجد كد يمنع من معاودته»، نستشف معاني ضرورة الفكاهة والضحك في تجديد طاقات الإنسان بالترويح عن النفس. فصّل كثيراً في فوائد الضحك وفضله. وربما هنا لم يأت بجديد رغم أنه سبق فلاسفة عصر التنوير الأوروبي بقرون عدة. جديده في نظري لا يعتبر الفكاهة نتيجة لدوافع عدوانية كالحسد والضغينة كما يقول أفلاطون ولا يعتبر بهجة الفكاهة آلام أعيد إنتاجها كما سنقرأها لدى مدرسة التحليل الحديث. الجديد عنده هو أن الهزل يشكل بنية واحدة مع الجد ولكن يشترط أن تكون الفكاهة والضحك في موضعه(ومتى أريد بالمزح النفع وبالضحك الشيء الذي جعل له الضحك، صار المزح جداً، والضحك وقاراً). يعيب عليه المؤلف أنه أفحش في السخرية والتحكم.. وهذا الأمر لعمري من طبيعة الأشياء، لأنه أولاً فنان احترف الكتابة بين القصور والأمراء وهو بذلك مفتتن وسهل عليه الانزلاق. والأمر الثاني إن الطبيعة البشرية ليس من السهل عليها الوقوف عند الاعتدال، بل هي مجبولة نحو التجاوز ومعلوم إن الخطأ سريع للمزاح !! وكلما صادفت مفكري التيارات الحديثة الذين يتحدثون الآن عن ثقافة ما بعد الحداثة وهي مدرسة تعلي من شأن الثقافات المحلية للشعوب واللغات القديمة ، تذكرت نصيحة الجاحظ وهي (إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطعام فإياك أن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظاً حسناً أو أن تجعل لها من قبل مخرجاً سرياً، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها التي أردت لها، ويذهب استطابتهم إياها، واستملاحهم لها). المفارقة أنه يطل علينا من خلف القرون كأنه مثقف معاصر ينادي بثقافة ما بعد الحداثة!! التوحيدي: يختار المؤلف فيلسوف آخر هو أبي حيان التوحيدي وهو من أدباء القرن الرابع.ولا جديد لديه سوى التوسع في فلسفة أستاذه الجاحظ ، يصف فضل المزاح ويعتبر غيابه يضعف الفكر. وربما لأنه لم يكن يمارس الفكاهة في سلوكه كالجاحظ نجده أكثر تجريداً في التحليل. يفسر ظاهرة الضحك في صورتها الآلية ويقول أن الطاقة الداخلية التي توقظها(العجب) أو موضوع النكتة تنبعث من بين العقل والغريزة. إذا خرجت متدرجة تحدث حالة الضحك. ومن استبصاراته قوله (فإنك إن لم تذق نفسك فرح الهزل كربها غم الجد) ويقول: قيل لعمر«رض» فلان لا يعرف الشر، قال: ذلك أجدر أن يقع فيه. يصف الضحك والهزل وكل دروب الفكاهة ويقول إن كانوا لا يعجلون الآن نفعاً معروف المكان إلا أنهم يحدثون خيراً في باطن النفس و يثمرون نفعاً عند تعقب الأمور!! *** في قمة النضج الحضاري ومع ظهور إرهاصات التفسخ، اتسعت مجالس اللهو والشراب ومهرجي البلاط. كان عمالقة الومضة الأخيرة التي سبقت عصور الانحطاط ومنهم أبو نواس والضحاك، وابن المعتز..وهم طائفة الظرفاء. هذه الفترة وجدت توثيقاً واسعاً حوتها بطون مؤلفات شهيرة مثل: كتاب الأغاني للأصفهاني- الهوامل والشوامل الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي- كتب الجاحظ ورسائله - العقد الفريد لابن عبد ربه - طبقات الشعراء لابن المعتز - الشعر والشعراء وعيون الأخبار لابن قتيبة _ والأمثال للميداني- يتيمية الدهر وثمار القلوب للثعالبي _ معجم الأدباء لياقوت الحموي..الخ. ثروة هائلة أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية في مضمار دراسة الفكاهة والضحك وفي ممارستها وتصنيفها، اعتمد عليها بعد قرون عدد من فلاسفة عصر التنوير الأوربي. هذا النضج الفكري أنتج نوعاً من الاحتراف وسط الظرفاء، تركوا أساساً مهنياً لمن يسمون اليوم بفنانين الكوميديا ، ولا نرى فرقاً بين الفنان الفكاهي عادل إمام ونجيب الريحاني والنابلسي في عصرنا الحاضر وبين الشاعر (أبو العبر) الذي مارس الفكاهة وتحمق بعد أن كان شاعراً جاداً. قيل فيه ما يمكن أن يقال عن أموال عادل إمام (كسب بالحمق أضعاف ما كسب كل شاعر في عصره بالجد)!! مع ظهور عصر الانحطاط منذ القرن السادس الهجري امتلأت الساحة بأخبار الحمقى والمغفلين. كتاب ابن الجوزي كان جامعاً لأخبار هؤلاء. الانحطاط انتقل حتى إلى الفقهاء والمفسرين وقد كان عنوان هذا الكتاب نفسه مدعاة للسخرية والعنوان هو (أخبار الحمقى والمغفلين من الفقهاء والمفسرين والرواة والمحدثين والشعراء والمتأدبين والكتاب والمعلمين والتجار والمتسببين وطوائف تتصل بالغفلة بسبب متين). البحث في هذا العصر لم يعد موضوعه الفكاهة والضحك، بل في تعريف الأحمق والمجنون والفرق بينهما..مما يذكر هناك أن الفرق بين الأحمق والمجنون هو أن الأحمق يحدد الهدف ويفقد الوسيلة أما المجنون فلا يستطيع تحديد الهدف. من نكات عصر الحمقى ينقل هذا الكتاب نماذج منها: سمع جحا مرة شخصاً يقول: ما أحسن القمر..قال: أي والله خاصة في الليل. *** قال أبو العباس: سألت رجلاً طويل اللحية: ما اليوم؟ قال: والله ما أدري إني لست من هذا البلد. *** كان إعرابي يقول: اللهم أغفر لي وحدي فقيل له: لو عممت بدعائك فإن الله واسع المغفرة. فقال: أكره أن أثقل على ربي!! *** تذاكر قوم قيام الليل وعندهم أعرابي فقالوا له: أتقوم الليل؟ فقال: أي والله.. قالوا: فماذا تصنع. قال: أبول وأرجع وأنام. *** قيل لمغفل لقد سُرِق حمارك، قال: الحمد لله لأنني ما كنت عليه !! ... ونواصل في البحث عن (الضحك) في العصر الحديث..